المنظمة العالمية للإبداع من أجل السَّلام/ لندن

مقاربات في أيديولوجيا السرد رواية حاموت للروائية وفاء عبد الرزاق

09-06-2024


327 

مقاربات في أيديولوجيا السرد

رواية حاموت للروائية وفاء عبد الرزاق

بقلم: إنعام كمونة

مستخلص:

أن أبعاد أديولوجيا الأدب بنية سرد بمنهج فكري تخيلي يتبناها الراوي بمفاهيم عامة متسعة الأوجه الإنسانية يستشفها من زوايا الواقع , مترتكز سياقات ستراتيجية فكرية وفلسفية وسايكولوجية متعددة المعارف عميقة الدلائل الملموسة من محيط العالم ,وباستيعاب الراوي لعقدة الحدث يروم الى تحليلها وتفسيرها وطرحها بسبكها عبر وحدات  حكائية السرد بأولويات تأثره الواعي وما تراكم من مخلفات مؤثرة في اللاوعي ,وبادراك حسي ونفسي بعمق الشعور الإنساني مختلط الخلجات, فكل سرد  حكائي لا يخلو من آفاق إديولوجية  في حبك الرواية,و بامتزاج رؤيته الخاصة بحرفية خياله عن معانات عامة , تتضمنها عدة معطيات بخصائص سردية, تتجلى بتقنيات فنية مضمرة أو مكشوفة على مستوى التكتم ورمز الإيحاء ومراوغة الأفصاح الدلالي  وغيرها, وذلك بتشكيل المكونات الأساسية لأسلوبية السرد, وببناء إديولوجيا سرد جميل التعبير وفاعل بصور رمزية مكثفة قد تكون على مستوى ظاهر أو باطن من الدال الى المدلول بكيان مباشر أو غير مباشربحركية السرد وفاعلية الوصف للشخصيات أو الأماكن وتراتب الزمن وغيرها من العناصر الأساسية.,

مقدمة:

بمنطق ايديولوجي يعمد الروائي لنسق سرد رؤياها عبر امكانية حرفية باتقان لغته, بعد أن برسم فكرة خيالية تمزج مديات معرفته بإطر فراسته للواقع, فيضع خريطة معالم السرد بتسلسل الحدث من بذرة الإهداء لخاتمة الرواية وما بينهما يتوج بموضوع ما ..رسالة ,أو خطاب يوجه لرؤى القارئ ،ليستقرئها بشغف, أو يتركها على أسطر تذوقه تنتظر، ومن خلال أسلوب السرد نستنطق ظواهر فلسفته الرؤيوية, باحتواء الموضوع بدلالة مغاليق إيحاء سرد الحالة، أو وصف الحدث بمستويات المعنى في مدارات النص، وذلك يخلق جدلية تواصل بين المرسل والمرسل إليه.

ما بين رؤانا سطور رواية( حاموت) للروائية وفاء عبد الرزاق نستنطقها لجدوى البحث, وطرق التحليل لمنافذ التأويل بأهمية الموضوع وتفاصيل المضمون وقصد الفكرة، نستقرئ أسلوب الراوية ليلى من تشكيلها الإيديولوجي العام بفضاء انثروبولوجي وعناصرها الآخرى الدرامية التعبير, وسيميائية منظومة سردية تؤرخها الراوية على مدى كوني بمستوى الحدث التاريخي لما تحمله الرسالة من حقائق وافية صادقة الأحاسيس كُتبت بقيم أدبية ,وحس نفسي.. فلسفي من عمق روافد إنسانية مستمدة رؤى الحدث من تقلبات الكون عامة واشكالات الوجود خاصة, بتصعيد دلالي للتحولات الاجتماعية والثقافية والسياسية،تتناقلها بأبعاد رمزية من منطق الواقع لمخيلة الذات, بنسج علاماتي لتوليد خطاب مؤثر...

الإهداء

- اختلفت الروايات الحديثة باختلاف حركة الزمن والتغيرات الاجتماعية والسياسية والثقافية وحتى طبيعة الحياة ومتطلبات الإنسان لذا نلاحظ ان للإهداء اهمية لا تقل عن باقي عناصر الرواية، وقد عُد عنصر من عناصر الروايات الحديثة، لما له من إيجاز مكثف ممهد لتواصل القارئ، ومن خلال عدة روايات معاصرة تميزت طبيعة الإهداء الفلسفية بسيمائيتهِ الدالة باختلاف حركة الحياة عما استطلعنا سابقا من هارمونية الإيحاء بوحدات السرد، قد يعري جزء من المخبوء أو يعلن ما ضمر من مضمون الفكرة، لتفتح آفاق رؤى القارئ، فيكمن التشوق لتحليل سيميائية الاهداء ويلتهم النص.

نعم؟

- يبدو من الاستفهام (نعم) ايجاز مكثف تعني استجابة وتأكيد بحوار ذاتي، ولنبحث عن ماذا تؤكد؟، نلاحظ مفردة نعم تلاحقها علامة الاستفهام؟، علامة لغوية نصية بأسلوب مضمر المعنى ثم تكمل الإجابة بتعمد الراوية، فهل يفاجئنا الاهداء بكلمة نعم، استجابة لما يدور في ذهنها؟ ,أم لتجترح حسية الرؤى في تصورات القارئ باستغراب يطوف في فلك التساؤل؟

- رغم إن مفردة "نعم" تعني الاستجابة والقبول وهي عكس مفردة "لا" ومعناها، ولكن هنا معجمية "نعم" لها حركة دلالية تنشأ بتضاد مدلولها، تؤكده الروائية بحوار روحي مع القارئ بحِدَة النكران، فتشيد من وعي الضمير مونولوج داخلي يعصف اعتراض نفسي ,وانتفاض سيكولوجي من اجتراح الروح فتبادر بكلمة نعم وكأنها تقرأ أفكاره المعارضة ..!!، فتجيبه بقوة يقين شاهد عيان للحدث، متعايشة معه ومنصهرة بكيان تفاصيله، فتجيب بنبرة تبرق لبؤرة دلالة: عليك أيها القارئ، والسامع، والرائي، أن تصدق تلك المصائب والعذابات وطرق الموت بأنواعه المتعددة وأشكاله المريعة..!!، إن حقيقة مدينة حاموت ميدان حرب مرئي ولا مرئي مجهول العدو، واقعي الحدث بأثبات مأساة براهينها الاعلامية والمسكوت عنها، لذا مفردة "نعم" المتسعة الدلالات والممتدة من جمهورية الموت المريب يستشعرها ذهن القارئ طاقة استثمار واستفزاز لجميع الحواس بثورة نفسية عنيفة الأثر، لنتابع ما تقوله مسترسلة:

"أهدي عملي هذا إليها، تلك العلامة التي لم تصل لذاتها كي أرجو منها الأخذ بيدي والوصول إلى الحقيقة"

- لمَ تهدي الروائية ليلى عملها لتلك العلامة المحدودبة الظهر,وهي تتهمها بعدم معرفة اعماق ذاتها؟ بل والعارفة بكيانها المرمز الدلالات للانحرافات الفكرية والمزاجات النفسية باختلافات اجتماعية وثقافية وذلك التقوس الذي يومئ لعلامة انتكاسات فوضوية الأحداث, وبدلالات أخرى ربما للإحتماء من عواصف العداوات وتشنجات فكرية متقلبة لتيارات القتل.

تومئ الروائية بمرونة دلالية عميقه تشحذ رؤى فكرية مختلفة لا يتعداها القارئ الفطن منها دلالات تأويلية عن كينونة ذات الفكر البشري بممارسات لا يستوعبها عقل واعي وضمير متقد، ويقين قلقها المفعم بالألم لسوف لا تداوي جروح سيل الأسئلة العفوية فتبقى باحثة عن الحقيقة، وزاوية الصواب مثقلة بالخيبات ما بين سيرورة الولادة والفناء أكذوبة وجود بدلالة تشبيه راقية جدا لهيئة علامة الاستفهام ومقاربتها الأنسية؟.

وتعاود الروائية تهذيب السؤال بجرح التمني في هذيان الحوار فتعيب انحنائها من علل الروح وشظايا المَصاب باستفسار لا يمل الانتظار، فهل يشفي السؤال ضنين التشظي في الغياب المحتوم بألم الفراق؟ وتكمل

"ما زلت أتساءل أيتها الملتوية على نفسك"

لما يلتوي الجسد على نفسه هل يخفي أفكاره السلبية بلا حجة وتبرير، أم يكتم ضمير افكاره في عتمة الهذيان ..؟؟ نستبصر رؤى إنسانية باحالات مختزلة لدلالات تأويلية عديدة منها: عقدة الفكر المتطرف، عدم تقبل فكر الآخر، رفض التسامح، والتعايش بسلام انساني مع كل الأطياف .. ثم تخاطبها باحتمالية الدلالة لولادة وجود.

"لو عدَّلتِ من ذاتك واستقمتِ، هل سنولَدُ من انبثاق النار، أم من التراب؟"

يكون السؤال عقيم الإجابة بدلالة "لو"، ويكون الخيال اسهل خيار من واقع يجترنا لجحيم لا مخرج منه، وبدلالة التمني تستدرك ليلى "لو عدَّلتِ من ذاتك واستقمتِ"، ما يجعل القارئ يتساءل هل تستقيم قامتها الفكرية..؟ ,أذن ليبطل التساؤل ويذوب الجواب في حتمية التفاهم،نرى أنسنة التشبيه الاستعاري علامة باذخة الصورة، عميقة الإيحاء، بديع المعنى يفتح أبواب الدلالات للقارئ النهم، ألا مفر من الموت حين ولادة؟، فأبواب العمر دائرة محكمة الأغلاق مهما نطوف بنوافذ الزمان نعود لنفس تاريخ الولادة بموت محقق.

السؤال مخاض توالد في زحام قلق الوجود، تكتنفه إيديولوجية الرؤى للروائية ليلى باحثة عن سر اضطرام  فكر الأنسان وعقيدته المشوهة بقسوة العنف فتقول:

 "هل سنولَدُ من انبثاق النار، أم من التراب؟"

 فتتيح للقارئ دلالة منولوجست هذيان عن عقيدة مفاهيم الإرهاب ووتطويع القتل السائد، اليس هناك محصلة مصير لوجود حيوي يقنن دوافع العنف؟، وأمنية الوطن إلا حلم حرية يراوده قتلا؟، بقدر استحواذ الآخر على السلطة قسرا، ومن أجل ثروات ممكن أن ينالها بلا قطرة دم!!

وتبقى ليلى عليلة السؤال المضرج بسيكولوجية الأمل الخائب تدور برأس السؤال وذات الطواف عن محرقة الموت في مدينة "حاموت"

"ها أنا ذا أرسمكِ مرة أخرى وأقول ما الذي سيحصل؟"

فهل تفي استقامة علامة الاستفهام بقناعة الجواب لتنهي التصدع والتشظي بين المعتقدات بانبثاق رؤى التسامح؟ فلولا الأعوجاج لبطل معنى الاستفهام وتنحى السؤال، دلالة بليغة المعنى مغايرة الإيحاء، تشبيه استعاري بارع عن انحراف فكر الإنسان للكره والقتل والانتقام وكل موبقات الحياة وغيرها من تعقيدات نفسية، بسلوك معادي للإنسانية وتصرف غير سوي ,إحالة تأويلية عميقة الدلالة ببيان مكثف جدا رائع عن مخاض الحروب ومصائد السلام الزائف الذي استحدث من الإنسان ضده.

ولنرى ما الذي يحصل في عتبات الرواية تتهادى تفاصيل الأجوبة فما أروعه من إهداء يُذَوب شوق لمعرفة الجواب ونحن معه

العنوان

العنوان صيغة تأسيسية لدلالات النص ومفتاح أولى التفاعل لمشاعر القارئ وشد أواصر الدهشة يصوغها المبدع لإرباك القارئ بشعوريته أولا, كما يعبرعنه امبرتو إيكو (أن يشوش الأفكار وليس أن يوحدها) وتلك معادلة صعبة لخلق تواصل بقوة تأثير السرد، وجمال صياغة الرؤى بمنظومة دلالات الموضوع فلا تكن إلا من مبدع، ففي العنوان شفرة تقديس مهيبة تكمن في اللاشعور أثر انعكاسات واقع وجودي يتشظى من عمق مناخ انثروبولوجي تستدرجه الروائية من إيديولوجية مفاهيم اجتماعية وثقافية وعقائدية وحتى سياسية محمولة من ماضي سحيق لحاضر موبوء برفض طرق التسامح.

ونلاحظ  التوظيف الأديولوجي لتقنية رمزغير نمطي , بتركيب غيرتقليدي فني, غرائبي التشكيل ,هجيني النسجة ، بأسلوب حداثي معاصر،فتبدو من معجمية (حاموت) براعة صياغة في تزاوج معجميين بامتزاج مكين , توالد منه مصطلح فني مُقنِع التعبير بحداثة لغة رمزية التعبير, وبغض النظر عن هارمونية اختزال بعض حروف مفردة حياة وانتقاء الحاء والألف بنبرة صوت إيحائية الملامح لحيوية الحياة بدلالة تأويلية عن عمر معين للإنسان، وترك حرفين دلالة تشي لعدم استمرار الحياة بفناء قائم، واختيار مرتكز دلالة معجمية الموت كاملة لإيحاء سيميائية الكثرة ,وتعدد سبل الموت الرهيب ,والمروع كما يشير له موضوع وفكرة الرواية.

فهل يقتنع القارئ لما يشي تركيب العنوان من تكثيف دلالي ؟,حين يستفزه شغف التذوق يبعثه للمتابعة لاكتشاف المنحى الغامض بتلقي فصيح  الرؤى لأسلوب الراوي،،بما تتجلى علامة تضاد دلالي ببيان اللغة ,لذا من الممكن أن نطلق عليه سمة مصطلح من قاموس الروائية ليلى بتفكر ميتافيزيقي ..انثروبولوجي، إذ نستبصر منه سيميائية اسطورة القلق الوجودي الذي يشغل فكر الأنسان بذهنية التساؤل, لما لا نعثرعلى عشبة الخلود؟، فننحو لجدلية العنوان حاموت حين نتعاطاه كرمز أنثروبولوجي متعدد التأويل ضمن السرد الموضوعي وباطنه النفسي ,لذا ما أوعزه كرمز انثروبولوجي لما يكتنه من التضاد الوجودي للموت والحياة في كل أساطيرالحياة يشغل حيز التفكر البشري بهوس الخلود.

وهذا المصطلح الهجيني الحروف بتشكيله الأنثروبولوجي بصوفيته الرائعة, يحمل في طياته لغز دلالي لا متناهي من حدث الواقع المشحون بالخيال الحسي والفلسفة الوجودية، يتجلى إيحاءً عن كينونة الموت ومغزى الحياة  بمكنون واسع النقاش لقضايا إنسانية كونية لا تنتهي جدلية الرؤى منها, فلا نملك صراحة التأويل عنها بوضوح تام ,ولا نتمكن بلورة قناعة كافية لغموض تفسيرها, بل يبقى فُتات الجوهر ملغز المعنى بهول تعدد التحليل والتأويل ,ولا اثبات نهائي عليه بنص قرآني أو عقيدة ما ، ويبقى البحث عن ماهية الخلود مجهولية سبل، تذكرنا بأسطورة كلكامش وسفر المعاناة للبحث عن عشبة الخلود ، إحالة دلالية للرفض الذهني لمعنى الموت رغم ثبات العقائد عليه والاستسلام له قدرا في هذا الكون فحب الحياة فطرة ربانية.

كما أن جدلية رمز حاموت غائر في محور غيبي بدلائل ميتافيزيقية تتيح للقارئ الخوض في بدائل دلالية متعددة التأويل للبحث عن أسرار الكون, ففي أي مكان لحدث نستشعره هالة من رمزية حاموت!!, فهوتضاد حتمي في كنه بقعة الوجود  واللاوجود، ومن التوتر التشخيصي لميثولوجيا صوفية العنوان نتساءل، هل ينتهي الوجود ما بعد الموت..؟فنعود لميتافيزيقية الوجود بفرضية غموض إذ الغيب مجهول ، ومن دلائل نستطلعها فيزيائية التوازي عن خلود الروح وتحلل الجسد، يشدنا غموض المعرفة الكونية البيولوجية للحياة الأخرى وبعض من السحر باعتقاد التناسخ بعوالم جديدة حبا بالخلود، وهناك أساطير كثيرة ومعتقدات تراثية أو عقائدية قد يُقنع تفسيرها ببينة ما ,أو رفض إحالة دلالية للصراع الإنساني السائد القدم عن البقاء والفناء

لنتابع متن الرواية /  وقد تمظهرت بأشكال عدة من تمازج مقاربات منها:

نلاحظ ايديولوجية السرد بتشكيل فني الأسلوب سلس الانسياب بروحية الأنا وفلسفة بصيرة الروائية لسيرة وطن أدمنه الإرهاب وذبحه سيف الشريعة المزيفة ,واغتصب ترابه الأقربون وانتهكت حرمات براعم دمه أجناس شتى فتشظى أشلاء بلا قبور ولا إثبات هوية، فطفح بروح عارف يكابد أناه منولوج حواري بما يدور حوله ويختلس السؤال تلو السؤال بحلم ويقظة وخيال، أيصل صراخ الحقيقة لوجه العالم المتغاض مؤطرة رسالة الخطاب الذاتي بوجع المعاناة أم تبقى حاموت رسالة جحيم ممزقة خلف الظلام..؟...

نلاحظ سيميائية الرواية تتشبث بتكرار اسئلة فكرية وجودية بفهم واعي برؤى الراوية تبث لواعج رسالتها باسئلة تردد "هل، متى، ماذا، ..الخ"، على لسان السارد العارف، تتلاحق في المتن الروائي بتزاحم متوالي باستحضار صوفي واستنطاق ميتافيزيقي عقيم، عصي على التصورات الذهنية، صعب التفسير على منهجية فكر الأنسان وتركيبته الفطرية، ولربما على عقل مجرد من الواقع أو مفعم بالخيال للبحث عن أجوبة لأسباب فوضى واقع الحدث ,بمنطق كامن الاستنتاج أو بديهي الأثر بمقاييس كونية غير متوقعة يستوعبه الفهم الذاتي بحدود المعقول ..!!، لذا دينامية الأسئلة وتراكمها الإنثيالي بقوة تدفق هي أيديولوجية تشكيل السرد وانسيابه باعتماد الفكرة، هو تهيئة معمارية شحن الرؤى التي تفتح شهية القارئ لمتابعة شيقة ربما العثور على اجابات شافية.

ولنقطف بعض ما تصفه الراوية لمدينة حاموت:

"حاموت..مدينة الظلام والكابوس، كأنها غيمة سوداء تحاصر سماء أبنائها وتصهرهم واحداً تلو الآخر، ما هي إلا صدى أسلحة، شكوى مؤلمة، صوت العتمة الخافت والحزن الوقور"

من مشهدية المكان لحقبة زمنية مستمرة، نرى دقة وصف طبوغرافية المدينة التاريخية حراك استعذب صور الموت المرعب بوحشية سافرة، فرغم قتامة دلالة الاختناق بالحزن الصامت إلا أنها تصفه بحزن وقور..!!، مما يسترعي انتباه القارئ بتساؤل فضول تأثره النفسي والحسي عن ثيمة حزن وقور، هل هناك حزن غير وقور .؟ولماذا ؟ تساؤل يضني الروح بألم الفراق خافت الإجابة، قد يكون بلاغة لغة الحزن العميق مكبوت الأحاسيس في ذاكرة الفقد مرارة القلب بسلب الحياة عنوة وخوفا من ملاحقة شبح الموت "عزيز"، وبأساليب شتى لشريعة لا إنسانية، دلالة تأويلية عمق الوجع معايشة الغاب بسلطة الأقوى.

اشتغلت الروائية على الشخصيات الأساسية للرواية بإيديولوجية سرد مرتكزة على استحضار نفسي لوجع الذات وباستهلال اسم السارد "محمد" استعارة بليغة تشي بوجدان واعي وفكر متحضر متفاعل مع وجع الإنسانية المتمثلة بمدينة حاموت (عالم الأرض)، وبدلالة ظاهرية لرمز الاسم ليوحي لغالبية المجتمع العربي ,ومنهم في المنفى لبقية العالم، وباطن دلالي للسلام الإنساني واليقين العقائدي عامة، فبقعة حاموت كونية الدلالة خصوصية المنطق للوطن الأم.

وبآلية رؤى مقصودة لحشد بؤرة الرواية بالسؤال والاستفسار وتفعيل المؤثر المعرفي للقارئ منحت شخصية محمد دلالة رمزية أخرى هي سمة العارف, ليفضي استفسار السرد على لسان ألهامه الروحي، وتوحي الدلالة بتجاوز ذاتها للواقع الكوني بمشهدية لعارف الوقائع، نلاحظ أيديولوجية سرد بارعة الرؤى بخبرة وإتقان ذكي، فنستقرأ من هذيان العارف محمد استفساراته الفكرية وتساؤلاته الصوفية في اليقظة والحلم والخيال سعي باحث عن إجابة مقنعة وحقائق جوهرية لسبب الموت بعنف همجي وشرعنة الأمداد من بني جنس البشر.

الاستعارة المادية بأنسنة شبح الموت وبناء شخصيته من مخيال الروائية بمعنوية الأحاسيس البشرية المتناقضة من قسوة مشاعر لحشد احاسيس وتعاطف مع الموتى، مع أنه لم يتوقف عن ترك بصمة الموت بختم إبهامه وخطف الأرواح، تأويل إشاراتي لمقاربة ميتافيزيقية الروح المتجسدة في (رؤى الحُلم، الإلهام الروحي، أفق الخيال).

إطلاق صوت الروائية الفكري الواعي عبر السارد محمد رسالة إنسانية صارخة بمحض واقع متجذر, توحي للقارئ أيديولوجية سيرورة صوفية لجدلية مقاربة ما بين الحقيقة والخيال بلهفة صوفية عن سر تضاد الوجود بكنه الحياة والموت بانغماس روحي وفلسفة حسية ,تعتمد الإثارة وبث روح الدهشة والفجأة كما في إشكالية (إبهام الشبح) رسالة الموت ,ومن ثم تتصاعد عموديا بنظم علامات وإشارات طرق الموت من احتراق أو دعس بسيارة أو مرض ووباء أو انفجار يتابعها القارئ على صفحات الرواية بترتيب الحدث المنظم.

لننحو الى التوظيف الرمزي للأسماء

محمد= رمز لخاتم الأنبياء محمد (ص)دلالة  لدعوات السلام بين كل الطوائف والأديان السماوية وغير السماوية بتفاهم وتعاون انساني

العارف = دلالة سوسيولوجيا الضمير المصغي لفكره الواعي

عزيز = دلالة غموض هيمنة القدر وميتافيزيقية المصير

اشرف ومكي وجابر = رموز عميقة الدلالة غائرة المعنى تحيلنا لأديولوجيا عقائد تستفز القارئ بقصاص (بشر القاتل بالقتل)

خليل = دلالة إنثروبولوجيا مجتمعات السلطة الغاشمة المتعطشة للدماء، والقوة المستبدة لاغتصاب ثروات العالم ورسم المصير

وكما نرى صوفية الرؤى في وصف مدينة الظلام والموت من متن الرواية المتعالقة بمحمولها الدلالي من القطاف التالي

((حاموت مجرد دعاء مهجور، أو ناي صامت يحترق بعاطفة جيَّاشة ويلتهب

 نستلهم منها ثيمة نصية بتضاد اشاري عميق مختزل الاستعارة مرمز التشكيل بكيميائية موضوعية وفلسفة رؤى, بوعي راسخ أن الابتعاد عن صيغة التعامل الإنساني نسيان أوامر الله بالمحبة والتعاطف، إحالة تأويلية الى ارض حاموت هلاك البشرية وميدان حرب على أي موقع في الكون

خاتمة:

تنطلق الرواية من جدلية حوارية ثنائية البؤرة بتجسيد مشاهد بانوراما فكرية ساحرة الصور أنثروبولوجيا إجتماعية زمكانية الوجود في الماضي والحاضر، توقظ احتمالات دلالية متعددة الرؤى، باستقطاب طوبوغرافية ثنائية الوجود (الموت والحياة، الخلق والعدم، البقاء والفناء، الصراخ والسكوت، الشعور واللاشعور، الوعي واللاوعي، الحرب والسلام، الجهل والمعرفة، الإيمان والكفر، وغيرها..)، لذا حاموت دلالة الصراع العقائدي والتنازع السياسي والانتهاكات السلطوية والانحرافات الاجتماعية والركود الثقافي.. الخ.

نستقرئ رؤى مركبة من مناخات تراكمية استرجاعية الذاكرة وليدة الخيال ممزوجة بخزين حفريات الواقع، بتجارب إنسانية حقيقية التلامس، تتسم برؤى صادقة الأحاسيس موجوعة الروح، تثري التواصل بين المبدع والمتلقي بمتابعة تفاصيل الرواية متجذرة بدلالات غزيرة الإيحاء ووشاية التفسير، معتمدة أسلوب إديولوجيا التساؤل ببيان لغة تشحذ الإلهام بمنهجية النص المفتوح بتعدد التأويل، يذكر دكتور عزيز حسين علي الموسوي (ويٌرجَع بعضهم سبب الكتابة على وفق النص المفتوح الى الحراك الثقافي المعاصر وكونها سمة من سمات التحاور والتفاعل الثقافي الذي أنتج تقدما في الكتابة ببنيته الحرة المفارقة لكل فن أجناسي منظم يجري على أشكال الكتابة الأدبية المعروفة...)*، فالرواية تعبر عن الفكر المعاصر بحداثة الأسلوب، وظاهرة مختلفة السرد بسياقات حوارية الاستفهام بحراك داخلي.. عفوي, ينطوي على معطيات الواقع بإخفاق حضاري، نتيجة تغيرات الظروف القائمة لقمع الإنسانية من طغاة الحروب، بهيكلة حوارية حية تتجسد في وحدة الخاص والعام.

بنية الرواية صياغة فنية رائعة متماسكة بمشهدية الأحداث مثيرة لذهن القارئ، لذا حاموت فسحة جمالية يتجولها القارئ بالبحث والتمعن والإنصات لرؤى الراوية ليلى بمستويات سيميولوجية عديدية تستحق التوقف بدهشة تفكرعلى كل فقرة من السرد، وتوافد التساؤلات الوجودية للتمتع بفلسفة ايديولوجية السرد المتعالق بثقافة مجتمعات مشوشة العقائد, بتركيب وحدات لغة حساسة بميكانزم الرموز وتشكيلها الفكري، وقوة تماسك بحركية احداث مترابطة, شيقة باذخة الجمال ,متدفقة الانسياب, لا تخلو من انزياحات رائعة بحداثة السرد وتداخل الأجناس، وباستعارات ذكية تخلق حيز التأمل الفكري والنفسي,وهيكلية انساق لغة مغايرة للمألوف مدهشة, واسقاطات مشهدية  معاصرة منتقاة من رؤى كونية حقيقية، تستحق القراءة والتوقف على سطورها التشويقية.

بورك الإبداع الخيالي والتميز الروحي والتألق الفكري

قراءة: إنعام كمونة

......................

* من كتاب النص المفتوح في النقد العربي الحديث ص 235

 * (مفهوم الانثروبولوجيا هوعلم إنساني إجتماعي يهتم بكل أصناف وأعراق البشر في جميع الأقات, كما يتناول المجتمعات البدائية والتقليدية والحديثة والعصرية وتعني بأصول وتطور المجتمعات الأنسانية) مختصر

*مفهوم إيديولوجيا الأدب مفهوم واسع بحداثة السرد إذ لا يعني التفسير السياسي البحت بل أوجهة معرفية اجتماعية وثقافية وأن تعالقت مع السياسة