المنظمة العالمية للإبداع من أجل السَّلام/ لندن

عوالم ديوان( مُدخلٌ إلى الضوء)

26-04-2024


113 

عوالم ديوان( مُدخلٌ إلى الضوء)

بقلم: الأستاذة الدكتورة إخلاص محمود

_ مصاحبات محيطة داخلية:  تتمثل بالإهداء والعناوين الداخلية 

_ الإهداء : 
تختصر الشاعرة الإهداء بقولها :
 طعم النار لك ..
ولي بابك ،، البريء الوحيد .
     يعد الإهداء من المصاحبات النصية، وله وظيفة دلالية وتداولية تنشط الحركية التواصلية بين الكاتب ومتلقين عمله، وفي تفاعل بين المهدى والمهدى إليه .(30) وبذلك يشكل ارتباطا حيا بالديوان وعنوانه، ويفتح مجال الرؤى نحو التأويل . و(( إن القاريء قد يجد نفسه ازاء عنقود من الطرق المفضية الى النص، أو حزمة من المفاتيح التي تصلح كلها ربما وبفاعلية متفاوتة لفك مغاليقه))(31) ويظل ترجيحا لدلالة النص واستخلاصا للقول واهتداء الى مفتاح بذاته. فهو ((أحد المداخل الأولية لكل قراءة ممكنة للنص)).(32)
    إن الإهداء هنا وإن لم يكن محصورا بعلامة تنصيصية قوسية، وذلك لإطلاقه وعدم تحديده، لكنه يبقى محصورا بين ( أنت وأنا_ لك ولي )، المحور الأساس الذي يختصر العلاقة في هذا الديوان،إذ جعلت الشاعرة (طعم النار) له ، فالصعاب ومواجهتها تختص به لذاته التي تذوق الآه والألم. أما الذات الشاعرة فلها بابه، والباب رمز الانتقال من مكان لآخر، ومن حالة لأخرى، وهذا المعنى يخدم دلالة الديوان. وقد حدد بـ (البريء الوحيد) وهو المدخل الوحيد، ويعزز ثبوت الحالة في الجملة الأسمية لعنوان الديوان. وحضور النقطتان (..) التي تفتح المجال للتأويل وآثرتها بالفارزتين .
(( إن مثل هذا الإهداء يمثل موجها خارجيا للقراءة لايمكن تجاوزه أو تخطيه ))(33) فالإهداء لم يأت مجرد حلية بل اختارته الشاعرة بقصدية تامة، لتحقق من ورائه مزيدا من الدلالات والإضاءات التي تسهم في فك رموز نصها. (34) فالإهداء رسالة ضمنية تحمل دلالة تعمل على كشف الإتجاه الثقافي للذات المبدعة وغايتها.(35) ، وهو جزء من المصاحبات النصية التي لا تخلو من قصدية في اختيارات العبارات والمهدى إليه .
لكن دلالته تبقى غائبة عصية على الفهم تحتمل تلك التأويلات، ومثل هذا الإهداء يضفي ملمحا صوفيا ويحيط بالغموض الشخصيات المهدى إليها ( لي/ لك ) ( أنا /أنت ) وبالمادة المهداة أيضا .ولأن الاهداء هنا لايكشف عن دلالاته ولا يصرح بمعانيه مباشرة، وهذا يدفعني الى القول إن الشاعرة حتى في اهدائها زادت علي من العمل والجهد ما جعلني أفتق مضامين التأويل بحثا وتقصيا عما أرادته .
فلم يكن على الصيغة المتعارفة من ذكر الاسم وما شابه بل جاء بإهداء اقتسم صيغته( لك لي). وإذا كان الإهداء يعتمد على الإنتقال من الأنا إلى الآخر(36)، فهو هنا يتوسط العلاقة بين الأثنين في الرسالة التوصيلية مرسل مرسل إليه رسالة. إذ خص الإهداء بالمرسل والمرسل إليه معا الذات الشاعرة والآخر .
 فطعم النار من نصيبه والباب من نصيبها، والنار هي المطهرة من الاثم والوجع وتمثل الهالة الضوئية والمعرفية، ومايحمله الطعم من اللذة، فجاءت النار هنا تحمل ضوء العنوان ولذته المعرفية النورانية( مدخل الى الضوء)، و(بابك) الذي خصته الذات بها هو الـ(مدخل) ، كأنما هو اهداء داخل اهداء ، الباب الذي يتصف وحده بالبراءة يلتقي بالعنوان، لأن الباب المدخل الأول وهو باب النجاة نحو النور العرفاني . فالإهداء لاينفصل دلالته عن السياق العام للعمل الشعري بأبعاده الإيحائية.(37) ويخلق علاقات مع عنوان الديوان الشعري كما وضحنا ذلك، أو نصوصه بصورة مباشرة أو غير مباشرة .
_ العناوين الداخلية (عناوين القصائد وعلاقتها بنصوصها) :
    لابد أن يكون لهذا المدخل (مدخل إلى الضوء ) من شكل للدخول يتمثل بأول عنوان للقصيدة بـ (آثرت خمرتك )، والخمرة أول فاعلية الحب، فهي رمز لفقدان العقل للذات فيمن تحب، إذ يكون بالسكر في الآخر حتى تكتمل الحالة بعنوان آخر قصيدة في الديوان (على سرعة من عيوني) الذي يحدد سرعة دخوله في نفسها، وإن كان المدخل يتحدد بالضوء فلا بد من رؤية له لذا جاءت بـ (عيوني) في العنوان مركزة على جانبين (السرعة،العيون) السرعة في نفاذ الحب واختراقه، والعيون التي يدخلها وتشاهد سطوة حضوره الضوئي. هكذا يتم الجمع بين العنوان الأول للقصيدة والعنوان الأخير الذي تختتم به عشقها الأبدي .
فتأتي العناوين مشحونة بالمعاني العرفانية الصوفية بشكل صريح أو ضمني. فالمحبة التي ينشدها المتصوف هي محبة الله له، والتي تضمن له الاتحاد معه، والكلمة اصبحت وسيلة فعالة لإبراز غايته وتخرج معاناته، فهي مشحونة ومكثفة دلاليا .(38) 
نرى في عناوين القصائد اشياء ومظاهر عدة يمكن حصرها بـــ :
1_ العناوين ذات البوح الصوفي
      نجد هذه العناوين واضحة وصريحة بالبوح الصوفي من مثل:( آثرت خمرتك/ اصغاء/ ارمني بك إليك/ سمني ما شئت/ ارتويتك كشفا / صعودا إليك/ الغرق شوقا / عن بعد أناجيك / في ينبوع روحك ..).
إذ تبدأ بالخمرة والإصغاء رمز صوفي للحب وشدة الجذب للآخر، ليصل السكر حده في (في ينبوع روحك) من الإمتزاج، ويصبح (الشوق غرقا) .كما نلاحظ أن الشاعرة تلون الآخر في نصوصها ما بين المذكر والمؤنث، لتعلن سمة الاتحاد من قبل الأثنين معا، فالحب بأسمى معانيه حب متبادل من قبلهما يصل بهما إلى أعلى درجاته. لأن الشعر الصوفي وسيلة من وسائل التعبير عن الأحوال، والحب عند الصوفي استلهام الحقيقة.(39) 
 تأتي بعنوان( سمني ما شئت) لتكون تناصا في التسمية في قوله تعالى :( وعلم آدم الاسماء كلها ).و( ارتويتك كشفا ) من الارتواء بالمحب هو كامل الذروة في الصوفية للحب، وكشفا له صلة بعنوان الديوان،لأن من خصائص الضوء الإظهار والإيضاح وجل مهام الضوء الكشف. فتعمل الذات على خرق المألوف والوصول إلى عالم الكشف،بالكشف عن العالم الداخلي بفعل دوافع العالم الظاهري، وكأنه صراع مع وعي الذات ووعي الكشف. (40)  
ففي( آثرت خمرتك) يتم التركيز على الخمرة و(( الخمرة الصوفية مصدر من مصادر معرفة الحقيقة الإلهية وسبب من اسباب التجليات النورانية وبشربها يغيب الصوفي عن الحضور الذاتي وتبقى روحه متعلقة بالحضرة الإلهية فلا يرى في شهوده إلا وجوده)) .(41)  فيتوسل الصوفي بالخمرة  ليعبر عما يستشعره من سكر معنوي، فيستعير الخمر وما تثيره من نشوة لدى شاربها للتعبير عن نور الشهود ونشوة الوصال بالكينونة الأزلية، فالكلمات تثري دلاليا، فتنتقل من أحادية المعنى وتصريحه إلى تعدديته وايحائيته.(42) وهكذا هي الشاعرة  في توسلها السبل للوصول إلى الآخر.
2_ الاختصار والاختزال اللفظي :
     يتم ذلك في اختزال( الفعل+ الفاعل+ المفعول به ) في كلمة واحدة كما في : ( أرمني بك إليك/ سمني ما شئت /ارتويتك كشفا/ أجلسني قربه ). وإن كانت تختزل هذه التركيبة اللغوية، فهي تختزن فيها الفعل والذات والآخر، كما يحدث تداخلا بينها نتيجة هذا الاختزان، وبذلك تعرب الذات عن حبها عبر هذا الإمتزاج، فهو حب متحد بالآخر، وجعلت من الألفاظ أيضا أن تتحد معا في إبرازه وايضاح معالمه .
3_ استخدام الضمير( ك) في الأفعال و الاسماء والحروف: 
_ في الأفعال كما : ( ارتويتك كشفا / عن بعد أناجيك )
_ في الاسماء (آثرت خمرتك / في ينبوع روحك )
_ في الحروف ( أرمني بك إليك / صعودا إليك )
إن هذا الاستخدام للتراكيب يضفي نوعا من التنوع في الحضور لحرف( ك) مابين هذه الصيغ المختلفة .

4_ ظاهرة خاصة من الجمع بين الضمائر
     جاء هذا للجمع بين أثنين (أنا +أنت ) أو أكثر (أنا + أنت+ هو ) لتعدد جهات القصد والاشتغال . من مثل: ( ارتويتك كشفا/ أجلسني قربه) وكأن الجلوس لايتم برغبة الذات وإرادتها بل بطلبها من الآخر فعل ذلك. هل لأن ليس باستطاعتها فعله بقرب الآخر؟! وكأنما هو توسل تصدره الذات لمن بيده الأمر للجلوس قرب الآخر الذي تتوسم به حبا جما .

5_  الجمع بين حروف الجر
     يكون هذا الجمع في حروف الجر بظهور كثيف في عناوين قصائد الديوان، إذ تأتي بداية عنوان القصائد، وهي كثيرة هنا مثل: ( في ينبوع روحك/ عن بعد أناجيك /على حفيف الشجر )، وهذا الحشد العنواني لحروف الجر يظهر لتقريب المسافة بين أثنين، وقد تأتي الحروف متأخرة في نهاية جملة العنوان كما في :( صعودا إليك/ أرمني بك إليك ) .
إن هذا المزج والتنوع في استدعاء حروف الجر والجمع بينها جاء رغبة في توصيل المعنى ،ولا سيما هي الحروف التي يتم بواسطتها ذلك، إذ تعرف بأنها: هي التي يتم بواسطتها نقل المعنى.(43) وقد يكون الجمع لحروف الجر بأكثر من حرف في العناوين مثل :( على سرعة من عيوني/ أرمني بك إليك ).   
6_ التفات الضمائر
    تسعى الشاعرة إلى نوع من الإنزياح عبر التفات الضمائر، لنقل دائرة الضوء إلى غيره للجمع بينهم والتداخل ،مثل: ( ارمني بك إليك ) ضمير المتكلم والمخاطب يفسرهما بوجود صاحبهما وقت الكلام ،وينتج من عملية الرمي هذه الاتحاد بينهما، لأن الرمي يكون بالآخر الذي يصل الذات ويتحد بها عبر عملية الرمي، ومن ثم تبدأ عملية أخرى محصورة بـ (إليك ) رد فعل عن الأخرى لتعلن دائرة الرمي تكون في اطار واحد هو المحبوب الآخر،وإن كانت بإتجاهين يمثلهما ( بك /إليك)، إذ تختمها بـ (إليك) وإلى تعني انتهاء الغاية بما تريده الذات، فجاء الإنزياح بالضمير هنا للجمع بينهم واعلان التداخل الحاصل، فيقف شاهد عيان على هذا الامتزاج . 

الهوامش : 
1_ ينظر:  النزعة الصوفية ، د.عبدالقادر فيدوح ، www. Fidouh.com  : 7_8
2_ ينظر: العبارة الصوفية في شعر التجاني يوسف بشير، د.عبد القادر فيدوح www.sudan_forall.org   :5
3_ ينظر:  المصدر نفسه :9 
4_ ينظر : النزعة الصوفية  : 2_3
5_ المصدر نفسه : 2_3
6_ ينظر: المصدر نفسه : 3
7_ ينظر:  المصدر نفسه : 11
8_ ينظر: العبارة الصوفية في شعر التجاني يوسف بشير : 5
9_ ينظر: جمالية الرمز في الشعر الصوفي،محي الدين بن عربي نموذجا،هدي فاطمة الزهراء، رسالة ماجستير، كلية الآداب، جامعة أبي بكر بلقايد، الجزائر،2006 :30 
10_ ينظر: عتبات الكتابة في الرواية العربية، د. عبدالمالك اشهبون، دار الحوار للنشر والتوزيع، اللاذقية_ سورية ، ط1، 2009  : 39.
11_ ثريا النص محمود عبد الوهاب، مدخل لدراسة العنوان القصصي، الموسوعة الصغيرة (396)، محمود عبد الوهاب، دار الشؤون الثقافية العامة، وزارة الثقافة والإعلام، بغداد_العراق ، 1995  :10
12_ ينظر: هوية العلامات في العتبات وبناء التأويل، دراسة في الرواية العربية، شعيب حليفي، دار الثقافة، مؤسسة النشر والتوزيع، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء_المغرب، ط1، 2005  : 11.
13_ ينظر: العنوان في الادب العربي، النشأة والتطور، د. محمد عويس، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة_ مصر، ط1، 1988   : 373.
14_ وظيفة العنوان في الشعر العربي الحديث، قراءة تأويلية في نماذج منتخبة، عثمان بدري، المجلة العربية للعلوم الإنسانية، الكويت، العدد81، لسنة 2003   : 19.
15_ ينظر: تداخل النصوص، حسن محمد حماد، مطابع الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة_مصر، 1998  : 148  
16_ ينظر : الجمال اللوني في الشعر العربي من خلال التنوع الدلالي، ليلا قاسمي حاجي آبادي، مهدى ممتحن، فصلية دراسات الأدب المعاصر،السنة الثالثة،ع9 :84  
17_ النص والنص المصاحب قراءة في تشكيل الحديث الشعري(اللغة والغفران)عينة، د.رشيد شعلان، مجلة المخبر ،الجزائر،ع6، 2010 : 2
18_ ينظر: جماليات اللون في شعر ابن المعتز، عبد الفتاح نافع، مجلة التواصل ،1999 :25
19_ ينظر: دلالات الألوان في شعر نزار قباني، أحمد عبدالله محمد،رسالة ماجستير،جامعة النجاح الوطنية، فلسطين ، 2008  : 51
20_ ينظر: اللغة واللون ،أحمد مختار عمر،عالم الكتب، ط2  : 183
21_ ينظر: دلالات الألوان في شعر نزار قباني : 51
22_ ينظر: المصدر نفسه
23_ ينظر: سيمياء الخطاب الروائي، قراءة في الولي الطاهر يعود الى مقامه الزكي للطاهر وطار .
24_ قراءة في السيميولوجية البصرية، محمد غرافي، مجلة عالم الفكر،الكويت،مج31، ع1 ،2002 :222
25_ ينظر: شعرية النصوص الموازية في دواوين عبدالله حمادي، روفية بو غنوط ،رسالة ماجستير، كلية الآداب واللغات، الجزائر،2007  : 272
26_ ينظر: مدخل الى جامع النص ،جيرار جينيت، ترجمة عبدالرحمان أيوب، دار توبقال، المغرب، ط2، 1986 :97 
27_ المصدر نفسه 
28_ ينظر: عتبات ، جيرار جينيت من النص إلى المناص، عبد الحق بلعابد، تقديم: د. سعيد يقطين، الدار العربية للعلوم ناشرون، منشورات الاختلاف، الجزائر، ط1، 2008   : 64
29_ تداخل النصوص في الرواية العربية   : 64  
30_ ينظر: عتبات، جيرار جينيت من النص إلى المناص :98
31_ الشعر والتلقي، علي جعفر العلاق، دار الشرق ،عمان، ط1، 1997  : 86 
32_ عتبات النص،البنية والدلالة ،عبدالفتاح الحجمري،منشورات الرابطة ،الدار البيضاء،1996  : 30
 33_ النص الموازي في تجربة فدوى طوقان الشعرية، عبدالرحيم حمدان، مجلة جامعة النجاح للأبحاث، مجلد 21،2، 2007  : 576
34_ ينظر: المصدر نفسه  : 579
35_ ينظر: شعرية النصوص الموازية  :54
36_ ينظر: المصدر نفسه :55  
37_ ينظر: المصدر نفسه :  58
38_ ينظر: النص الصوفي وسؤال التأويلية تائية ابن الفارض أنموذجا، علجية مودع ،ع10 ،مجلة المخبر،جامعة محمد خيضر بسكرة،الجزائر ،2014 : 26
39_ ينظر: جمالية الرمز في الشعر الصوفي محي الدين بن عربي نموذجا  :80
40_ ينظر : العبارة الصوفية :9
41_ جمالية الرمز في الشعر الصوفي،محي الدين بن عربي نموذجا  :78
42_ ينظر: التلقي في الشعر الصوفي، خديجة توفيق، علامات، 28 : 69 
43_ ينظر: ويكيبديا الموسوعة الحرة ar.m.wikipedia.org