كتاب " تجييل الكتابة الشعرية في العراق " أول ريادة أكاديمية عربيّة.
27-09-2023
159
كتاب " تجييل الكتابة الشعرية في العراق " أول ريادة أكاديمية عربيّة
بقلم: الأستاذة الدكتورة آمال بولحمام / الجزائر
جامعة باتنة 1
كلية اللغة والأدب العربيّ
قسم اللغة و الأدب العربيّ.
لا سبيلَ لأي قارئ وهو يتصفحُ المشهد الأدبيّ العربيّ إلا أن يقول بتلك القناعة، وله في ذلك مصاديق عدّة منها أنّ هذا النتاج قد ترشّح عنه تنظيرٌ موسومٌ بالوعي والأصالة وهو ينقب بين مفازات الأجيال جامعًا هذا الوئام عبر ما تضمنته متون المجلات والجرائد والصحف معزّزًا ذلك بالتطبيق الدال عليه، وبذلك حقّق بصمته الراسخة منتقيًا موضوعات ذات أثرٍ مهم، وكان ذلك في عام 2009 م.
وثانيهما أنّه استطاع أن يناقش المصطلحات والمفاهيم في تعدّدها ودلالاتها وصولًا إلى ترسيخ عنوان متنه النقديّ الجديد وهو "التجييل" وهو إنما أحدث أثرًا ذات وعي نقديّ جديد في طرحه، ولعلّ مضامين الكتاب تنطقُ بهذه الحقيقة على نحوٍ جلي.
ولن نكون مبالغين أن نزعم أن الريادة إنّما وسم بها هذا الكتاب لأنّه سُجّل لموضوعاته أنّها تأسيسية
حتى صارت منهلًا يغدق منه القرّاء ويتخذه الباحثون مرجعًا وهم يشيرون إلى سبق موضوعاته وريادة عنواناتها، وجميل استنتاجاته التي صارت هي ومضموناتها تؤول إلى تكريس اللحظة الفكرية والأدبية، وهذا ممّا يُحسب لصاحب الكتاب أنّه الناقد الحصيف الذي التقط الجديد بعدما غاص في أعماق النصوص الأدبية، بل
وتحسب له تلك الهمة التي تعذّرت على غيره في الجمعِ والتحليل والانتقاء والنقد والاستنتاج حتى أفاض برؤية جادة تجمع المتضادات الفكرية وتنأى عن الخوض في المسارات السالكة وتؤمن بالاختلاف الذي ينجم عن فكرٍ واسع يفضي بالاتّساع نحو مساحات شاسعة من العطاء الفكريّ والإنساني، لذلك سار مطمئنًا وبخطى واثقة ولم يستوحش من قطف الجديد لقلة سالكيه.
وعلى وفق ذلك كلّه، فهو
يمضي راسمًا خطاً لمرحلة من التوهج في فعلٍ إبداعي حيويّ مكّنته في ذلك لغته التعبيرية وأدواته النقدية وهو يعمل على مقاربة الخطاب الأدبيّ في لفتةٍ مهمةٍ لصناعة واقع معرفيّ جديد يتّسع لطرح قضايا فكرية تلامس الواقع الثقافيّ والأدبيّ وبذلك وجد الكتاب القسط الوافر من الجدة، وهو يسجّل لحظته الفارقة في عمر الراهن النقديّ وعبر الملاحظة والاستدلال.
لقد تبنّى هذا الكتاب مصطلحه النقديّ(التجييل) الذي ظلَّ مشغلًا نقديًا للباحثين والدارسين فيما بعد
وقد عرّج على المزيد من المفاهيم فأصبح لها تعدّد واضح ذكره الناقد بالتفصيل ، مثبّتًا أن للجيل رسوخًا في الرؤية النقدية التي تبناها فكان من المفاهيم ((الحركة، التجربة، الموجة، المرحلة، الحساسية الشعرية، ومصطلحات أخرى))ولأنَّ هذه المفاهيم لم تجد ثبوتها ورسوخها فقد تعدّد استعمالها حتى انتهى بمن تبناها إلى أنْ يجد في (الجيل) المصطلح الأكثر رسوخًا، وهذا ماأثبته الناقد لمصطلحه،وهو يؤكد استقراره ونفوذ مضمونه في الأوساط الأدبية بل والنقدية ليكون تبنيه عن ( وعي نقديّ ) لينتهي به المطاف إلى (تجييل) الحركة الأدبية في العراق بوصفهم أجيالاً شعريةً لهم رؤاهم وطروحاتهم.
وممّا تجدر الإشارة إليه أنّ فكرة(التجييل)-ورسوخ مصطلح(الجيل)- قد حرّكت مضامين الحركة الأدبية في العراق ووجّهت مضامينها إلى وجهات متعددة–وهذا ما أكّد عليه الناقد – ،كذلك فقد حمل هذا الوليد قبوله واستساغته لا سيما أنّه ينسجم ورؤى المضمون الأدبي، وبهذا ذكر الناقد الدكتور سعيد حميد كاظم رؤيته قائلًا إنَّ ((فكرة (التجييل) لها الفضل في أنّها أوجدت (حركة أدبية مميزة في العراق) انشطرت على شطرين هما: شطرٌ نقدي، وشطر ٌشعري،وكلاهما متلازمان حيث يوصل أحدهما إلى الآخر، فالضجة النقدية تترك آثارها على المنجز الشعري، والمغامرات الشعرية أو الجديدة تحفّز النقد وتستنفر نقادًا))ص5، مبيّنًا أنَّ ((أهمية الدراسة تأتي من كونها ستحاول أنْ ترسم ماهية فكرة (التجييل) وتحدّد إطارها، وتتابع أصولها، ونشأتها، ومحطات سيرها البارزة، كما أنّها ستسعى إلى محاكمة المنجز الشعري والنقدي الذي دار في فلكها، أو نبت في أرضها، وسترسم ملامح الأصالة أو التقليد فيه، وتكشف عن الإبداع أو الإتباع فيه، وتسعى إلى وقوفٍ عند مناطق الاتصال والانقطاع بين الأجيال المتلاحقة، فيما له علاقة بالجيل التسعيني، فضلاً عن أنّ الدراسة ستحاول أنْ تستجلي المشروع النقدي لهذا الجيل، وتقف على ( البيان) الشعري له)) ص6.
ويعرّج الناقد ذاكرًا مآلات التجييل ومساراته وأقسامه موضحاً أن هنالك من عوّل على (التجييل التأريخي)ومنهم من تعكّز على (التجييل العقدي) ليختم تصنيفاته بالقول إلى (التجييل الإبداعي) وهو القسم الذي يتبناه الناقد الدكتور (سعيد) في الفرز والتشخيص وقد عوّل عليه كثيرًالينتهي به القول إلى ((لا يبدو لنا أنّ التجييل ترف تحلم به طبقات من الشعراء لكي تُلفت إليها الأنظار والأسماع ، بل هو صنيع تقف وراءه حاجة موضوعية وتقتضيه ضرورة ملحة ؛ ذلك أنّ استعراض محطات التجييل في المشهد الشعري العراقي يُبيّن لنا أنّه ما من محطة من تلك المحطات إلاّ وكانت لها خصوصية شعرية انطلقت من تنظير مختلف)).
ومّما يؤكد اختياره عينة البحث عن الجيل التسعيني بعد تبنيه المصطلح والتنظير له أنَّ (( تجربة الجيل التسعيني نجحت في نقلنا إلى مساحة أخرى، اهتز فيها فضاء العلاقات والأفكار في النص الشعري ،حتى أفضى ذلك إلى اجتراح أساليب مغايرة متنوعة انسجامًا مع مقتضى الحال)).
لتنتهي به القناعة إلى اختيار الجيل التسعيني من دون سواه قوله ((هكذا صرنا أمام مغرى أكثر شدّا؛ هو أنّ ساحة التسعينيين لمّا تزل أرضاً بكرا, وإنْ وطأتها دراسات سعت جاهدة إلى أنْ تفوز بسبق الاستكشاف, وسواء كانت تلك الدراسات من نمط المقالات الصحفية، أم من نمط الدراسات الأكاديمية)) ص7 ورأى أنّ المساحة الإبداعية للمدوّنة الأدبية للجيل التسعيني لم تطأها أقلام الباحثين، ولم يتسنَ لدراسة أكاديمية أن تخوض في مساراتها، لذلك فهي جديرة بأنْ تكون مادة الكتابة والبحث نحو الجدة ؛ إذ يقول (( إنّ الذي دفعنا إلى تخصيص منطقة الاشتغال بالجيل التسعيني من دون سواه،هو أنّ الأجيال الأخرى نالت حظًاموفورًا من البحث والدراسة في دراسات سابقة أكاديمية، أو غير أكاديمية ، أمّا الجيل التسعيني فالأمر معه مختلف جداً ، فهو أمّا مغيّب لأسباب يراها بعض الدارسين (فنية) ، أو (جمالية) ،أو أنّ تجربة هذا الجيل – كما يراه بعض آخر– لم تكتمل، أو لم تنضج ، بحيث تصلح لأنْ تكون مادة للدراسة ، أو أنّ هذه التجربة لم يرافقها نقد ينهض بدراسة أكاديمية .
لهذا فإنّ الدراسات السابقة علينا وقفت عند تخوم الجيل التسعيني، أو ميّعت ملامحه ضمن الجيل السابق له، أو لم تستشعر فيه ملامح (جيلية) خاصة)) ص6.
موضّحًا في فصول كتابه بنية التجاور في المشهد الشعري للجيل التسعيني، ثمَّ يذكر بنية التجاوز، ويشير إلى بنية الانقطاع والافتراق بين الجيل التسعيني والأجيال السابقة له، وكيف أنّ بنية النص التسعيني اختطّت لنفسها نهجًا وأداءً خاصينِ بها على مستوى الأداء الشعري وتوقّف عند أشهر تلك الملامح أو البنيات وهي (الفضاء الضدي و تمجيد السؤال و الخطاب المعرفي و التشكل السير ذاتي و مجانية التغريب و الهم اليومي)،ليتوقف عند البنى الشعرية التي سُجّلت في المشهد النقدي لصالح الجيل التسعيني وهي (قصيدة الشعر و قصيدة الومضة و القصيدة التفاعلية).
وبهذا إنما يقف بإزاء لحظات تأسيس نقدي جديد نهض به هذا الكتاب، وعمل على توثيقها، وقد شخّص الفعل الإبداعي فيه إلى الحد الذي يتجاوز الكتاب وظيفة التعيين أو الإشارة إلى دالة نقدية بل ترك تنظيره أثره الواضح في مدونة البحث النقديّ، وراح يستلهم الباحثون مسوّغات تبني المصطلح وأثر المصطلحات، ولعلّ ما يؤكد تبنيه تثبّت تنظيره تطبيقاً فقد بسط فصول كتابه انتقالةً من التنظير إلى التطبيق، ومهّد لذلك السبل حتى كشفت محطات الفصول ومحاوره أصالة طروحاته وأوضحت مقدرته على التحليل والتعليل مستندًا إلى محدّدات علمية صارمة معززًا الإطار النظري بتقنيات إجرائية سارت نحو سعي متفرد وخاص به، كما هو الحال باختياره دراسة الجيل التسعيني ذاكرًا((ومن أجل أنْ يستكمل ذلك الجيل مقومات الوجود الحقيقي والفعلي, كان لابدّ له من أنْ يتبنى مشروعاً نظرياً ليجد تطبيقه في الشعر التسعيني, لذلك توقفنا في المحطة الأخيرة من هذا المبحث عند البيان الشعري للجيل التسعيني؛ فهذه المحطات الثلاث (الحاضنة، الولادة، البيان) شكّلت مسوّغاً حقيقياً للاعتراف بالشعراء التسعينيين جيلاً،ص10لذلك حمل هذا المبحث عنوانًا هو (الجيل التسعيني من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل) بمعنى متابعته منذ أن توافرت مستلزمات وجوده بالقوة وصولاً إلى وجوده الماثل للعيان بوصفه حقيقةً شاخصةً)).
لذلك تابع المصطلح وسيرورته وتطوره واستمراره وخَبَرَصلاحيته النظرية والإجرائية موضحًا مدى تمكّنه من تغطية المشهد الادبي بما اقتضته الضرورة، منتقيًا النماذج العليا ليرسم خطاها والنسج على منوالها والتأثر بمضمونها معبّرًا عن ذلك بلغته النقدية المتميزة ذات الملامح الصارمة، إذ لطالما يأوي إلى السياقات التنظيرية ويمدّها بالإجرائية حتى يمكن وسم نتاجه النقديّ بـ(الوعي) النظري والإجرائي، وبهذا فقد أمكننا أن نستقرئ بعض ملامح كتاب الناقد الدكتور(سعيد حميد كاظم)عبر انبثاق ملامح جديدة في رؤاه ولغته وطروحاته، وهي ما عزّز بها آفاقه التي شكّلت انعطافةً مهمةً في المشهد الأدبيّ العربيّ
الذي سجّل فيه الناقد الدكتور سعيد حميد كاظم ريادته الأولى عربياً.
قراءة في كتاب: تجييل الكتابة الشعرية في العراق.