المنظمة العالمية للإبداع من أجل السَّلام/ لندن

عام -2000 وذكرى الخلود

12-08-2023


145 

(عام -2000 وذكرى الخلود)
 
 
حين تهمسُ اللحظة؛تبرقُ الحواسُ كلها، إذ لا شيء أجمل من مطرٍ يوحدُّ الطيورَ لتتعانق  أجنحتها،- 19-8-2000 تاريخ الاقتراب من يقظة النَّهر.
الوردُ الأبيضُ يبحث عطرُه عمَّن يشبهه في الرَّحيق. هي ذاتها اللحظة التي راسلني فيها الشَّاعر والمبدع الراقي" عبَّا س رضا الموسوي"من مقر إقامتها في دمشق ، وقدم لي دعوة الحضور لإقامة أمسية لي، بعد مشاورة بينه وبين صقر الإبداع الكبير"مظفَّر النوَّاب".
فهو يعتبرُ " الموسوي"الأخ الأصغر له،ولا يتفارقان أبدًا. والمعروف عن العملاق" النوَّاب" يحتضن الإبداع الشَّبابي، كما يحتضن أصحاب المبدأ والكلمة التي لا تساوم على وطنيتها.
 
هي غرفة وصالة صغيرة تسع لسجَّادة صغيرة فوق سطح عمارة قديمة؛ لكنها قبَسٌ من نور ، جمعني والغالي" عبَّاس"مع زوجة أخيه، لاتُسعفني الذاكرة باسمها.
على ذات السَّطح،فرحٌ نضرٌ بقراءات شعرية ،تخطَّت حدود الصَّداقة العاديَّة إلى نصوع جبين الكلمة الهادفة بين شاعرين يجمهما الإنتماء.
في مقهى"هافانا"وحكاية الأمكنة الجميلة، التقينا معًا وحديث العملاق الشيّق، كنا ثلاثة  "النوَّاب،وعبَّاس، وأنا"في المكان الذي يلتقي به أغلب المبدعين، فسوريا تحتضنهم جميعًا.
منذ تلك اللحظة أحببتُ دمشقَ، فهي زيارتي الأولى لها ،خاصة وأنا أشمُّ عطر نوَّابٍ يعبق التزامًا وإبداعًا لا مثيل لهما. شعرتُ كأنني طفلة في ربوع جنَّة.
بعد أيَّام انتقل " عبَّاس الموسوي" إلى شقة أخرى في الطابق الأرضي،وكنا معًا وزوجة أخيه نرتب المكان ونطهو ونتلذذ برائحة القهوة، وفي كل حين يتصل به " النوَّاب" سائلًا عنّي وبالتحديد:( هل وفاء مرتاحة؟ هل توفر لها كل شيء؟) إذ كان من المفترض أن أبقى في بيته، لكن غيَّر المسار حضور أخيه وأسرته من العراق؛ لذلك يتكرر السؤال الدائم عنّي وعن راحتي، و"عبَّاس "يطمئنه بأنني صرت جزءًا من المكان وكنت أقلي الطماطة ساعتها.مذاق الأكل يطيب كلَّما اتحدت القلوب، وإن كان الزادُ مجرَّد طماطة.
ألم أقل إنَّها ساعة أبديَّة الحلم والذكرى؟
نعم، هي هكذا حين اتفقا على إقامة أمسية لي، في( المنتدى الثقافي العراقي)للمعارضة برعاية جريدة" الحبُّوبي" الثقافية التي أسسها في سوريا المبدع" عبَّاس الموسوي"والتي دعمتُها قلمًا وأشياء أخرى.،في منطقة المهاجرين مقابل نادي الصحفيين السوريين. وقد أدار الأمسية الأديب" عبد الكريم العبيدي".
كان "النوّاب " يتصل بإدارة المنتدى ليطمئن على كل تفاصيل الأمسية ،حتى أنهم استغربوا مَن هذه الشاعرة التي سيحضر لها "النوَّاب" ويهتم بها بحرص ومحبَّة. وهو الذي يمتلئ المكان به وبمحبيه لو كانت الأمسية له.
امتلأ المكان بالحضور من كبار المبدعين والفنانين والمهتمين بالإبداع وعلى راسهم" النوّاب، الفنان فؤاد سالم،والأديب عبد الكريم العبيدي" والكثير من الذين أدهشني تفاعلهم ،وأدهشهم اهتمام " النوّاب ".أدار الأمسية الأديب" عبد الكريم العبيدي، بلباقة وجمال واهتمام ،إذ كان يشغل منصب أمين سر المنتدى الثقافي العراقي المعارض في سوريا.
بعدها حضرنا وليمة من سمك نهري في دار المبدع " عبَّاس" حضور مختصر لنا، يكفي أن الكبير" النوّأب " بمثابة عالم كامل، وكذلك بحضور المخرج الإذاعي" ضياء الجنابي".وزوجة أخ "عبَّاس".
سهرة دخلتُ من خلالها حدائق مسؤَّرة بالفصول الأربعة فما أجمل أن تكون بهذه اللحظات المشعَّة!
 
في اليوم الذي يلي اللقاء تجولنا أنا" والمبدع " عبّاس رضا الموسوي" في شوارع دمشق، وأكلنا(البوظة) "بگداش "الخاصة بسوريا والمعجونة بالفستق الحلبي والمستكة. عشقت سوق الحميدية، أولا لأني بصحبة صديق وشاعر أعتز به، ولعراقة المكان في كل زاوية منه أثر جميل بعمق تاريخه.
في بيت قديم بسوق الحميديَّة دخلنا مقهى تعج بالجالسين، هكذا البيوت في هذه الأزقة، تأسرنا وتأخذنا إلى حكايات وأسرار عطر تاريخها القديم. جلسنا نتحدث عن سبب إقامتي في غرفة فوق السَّطح، يسكنها أثنان، بينما كان "النوَّاب" يستعد لضيافتي في داره. أيقظني الحديث من سبات الأيام،وحلَّقنا صوب ذكريات"عبَّاس" في العراق، وكيفية مجيئه إلى سوريا، حاله حال الكثير من المعارضين.وذكر ما قال له النوَّاب مازحًا: -أعطيك إجازة منّي كي تؤدي الواجب ل"وفاء".
 
كما وِجَّهتْ لنا دعوة لحضور افتتاح  المعرض الأول للفنان التشكيلي السوري"عاصم المدرّس" شقيق التشكيلي الكبير"فاتح المدرّس" . تعرفت على الكثير من المبدعين في المعرض، ومحبة الفنان" عاصم المدرس" وزوجته، إذ دعتنا لسهرة جميلة "مدام غفران" زوجة التشكيلي السوري"فاتح المدرّس" إلى سهرة جميلة في مطعم في قمَّة الجبل، بقينا إلى آخر الليل يجمعنا الحب والإبداع والجمال ، وكنا" الكبير مظفر النوَّاب، والشاعر عبَّاس رضا الموسوي، والفنان عاصم المدرّس وزوجته،ومثقف سياسي عراقي معارض" أبو يزن" لم أعرف اسمه الحقيقي وقتها.كانت بعض الأسماء السياسية المعارضة المهمة، تُعرف باسمها الحركي ، أو باسم ابن لها.
من وقتها وللآن  حتى بعد رحيل العملاق "النوَّاب" كنا وبقينا يؤنس اغترابنا هذا الحب الأزلي،ولقاءاتي المتكررة في دار:النَّواب" في الشارقة،والصديق الأزلي"رياض النعماني الذي كان من المفترض اللقاء به ،لكنه كان مسافرًا للعلاج في الأردن وقتها،وكنت و" عبَّاس رضا الموسوي" التحام بين الشَّمس وأشعاعها.
بهذا الحب لن نحتاج من الدنيا غير البقاء بنا.
الرجل فعل وقول.. هكذا وجدت" الموسوي" فقد حاولت بقدر استطاعتي أن أقدم مساعدة مالية لجريدة" الحبوبي"التي أسسها،لكنه بعد أن أقسمتُ عليه بمحبته للنوَّاب ولي أن يقبل هديتي، أخذها وفي باله فكرة لم يفصح عنها. فاجأني في اليوم الثاني بطرح فكرة  طباعة ديوان الشاعر"علي الشيباني"( النار بطعم الأرض) وطلب مني التقديم لهذا الديوان.
لا يصدرهذا إلا مِن رجل شهم.. لامه النواب كون وضعه المالي أحوج بهذا المبلغ.ثم قال له: -هاي من طبايع أهلك، أهل الهور الذين عشت معهم.
حين تدهورت حالة" الشيباني" الصحية ، إشار لي" النواب  بمساعدته فأرسلت ما استطعت عليه وارسل لي رسالة أدمعت عيني، وكتب عني" الشيباني" قصيدة بعنوان وفاء ،ورسم لي صورة نشرها في إحدى الصحف العراقية وأرسلها لي قبل وفاته.على ما أذكر" طريق الشعب".
 
وبقينا، نعم بقينا يشعُّ أريج سنابلنا للحظة هذه،عندما سمع بحضوري للعراق،هيَّأ أمسية لي وكانت ،راقية بالحضور وبجهوده في الديوانية،بصفته( رئيس جمعية الشعراء الشعبيين) في العراق.
بعد أن فتحت الأمسية بابًا للنقاش التقطنا صورًا تذكارية مع أصدقاء لي كانوا حاضرين ومع الجمهور. أتذكر من الأصدقاء الذين وثقت الأمسية اللقاء بهم الأكاديمي"كريم المسعودي"كلية الآداب جامعة القادسية. والشاعر"كرار ناهي"والشاعر "حامد كعيد،والشاعر "محمد علي محي الدين".
أجمل موسيقى حين يوشوش لك أكاديمي:- كنتِ رائعة الحضور ،صوتًا وإلقاءً وتجديدًا بأسلوب ومواضيع القصيدة الشعبية الجديدة، فأدهشتنا صورك الشعريَّة وانزياحاتك المذهلة. شكرته لرأيه المهم وحضوره. شكرًا مرة أخرى لمقامك أخي النبيل الأستاذ الدكتور" كريم المسعودي"- 2019.
بعد ذلك بيومين زارني" الموسوي"، والشاعر الكبير"حامد ﮔـعيد" في دار أختي في بابل إذ أقيم عندها حين أصل للعراق. سررت أيَّما سرور حين قدما لي كتاب انتسابي (لجمعية الشعراء الشعبيين)بعضوية المكتب التنفيذي للجمعية.كان ذلك سنة-2019.
بهكذا لحظات ، يقترب كل الابتعاد ،ويعبّد الطرق الوعرة. أعترف:بان الإبداع أثمن جوهرة حين تستمر بصقلها، ولا شيء يصقلها غير الحب الحقيقي الرصين.
 
الشاعرة والأديبة :وفاء عبد الرزاق