المنظمة العالمية للإبداع من أجل السَّلام/ لندن

"فاتتني"

31-07-2023


153 

"فاتتني"

بقلم: عماد الدين

يختلس "جاهد"نظره إليها  من نفذه وهي تتجول بعد الاستحمام في سقف البيت وتترنم وتدهن شعرها الكثيف الفاحم المرسل إلى خصرها فيتألق كلما تنعكس عليه أشعة الشمس التي تستدفئ بها في ظهر الشتاء من حيث يبدو وجهها الرقراق المستدير كالبدر تكف به السحب القاتمة في ليلة ليلاء.وتجذب "جاهد"شفهاتها الرقيقة الحمراء التي كغصن رقيق للوردة الحمراء الرطيبة وتراوده عيناها الغزاليتان وحداقها السوداء التي كالتوت الهندي الأحلى ويميله جسمها البض المتعطر يلتف بلباس هندي أسود معروف ب(لَاهِنْغا).واليوم زاد رونقها يبدو وكأنها اغتسلت باللبن وتتجسد بالدرر أو الشهب فلا تراها عين إلا وقد تفتنها فتبدو وكأنها حورية فرت من الجنة أو جنية أتت من فلك ما.تستدفئ وتنتظر لشيء ولا يزال جاهد يخالسها ويبتسم وتتنبع دموعه من المآقي فيكفكفها.هذه دموع الشوق الجارح والانتظار الطويل القاتل والعواطف اللاذعة المكبوتة منذ سنوات.بقي يومان وسينعقد زفاف "سارة"فتبتعد عنه وسيتوارى عنها  أيضًا لأنه قد عول على أن يغادر المدينة بوحدتها وحرقتها ولا يزور البيت إلا قليلًا وذاك عند غياب "سارة".نادته أمه وكان لا يزال يرنو إليها بنظرة تائهة خائبة فرد بصوت عالي عمدا ليجد انتباه "سارة"  فخرج من غرفته والتفتت إليه "سارة" وتجاهلها متصنعًا عدم رؤيتها وبدأ يحادث أمه ولا يدري بما يقول فهو يتيه ويتخبط في الكلام ويقول عكس ما تطرح عليه أمه فوبخته وانصرفت وذاك لأنه في الحقيقة شاغل بمن وراءه قلبًا وبالًا والتي يتصنع تجاهلها إلى أن أخذته ضحكتها فالتفت إليها (جاهد)فيتكلف وكأنه يفاجئها توًا فيقول بادي البسمة وخافي الجوى

:- يا لسرورك تكاد لا تنتهي الضحكة....!

:-الضحكة بسبب دأبك المضحك والله بقيت غبيًا هههههه ....

:-أنا غبي؟

:-فمن؟

يقول ويحاول استفزازها

:-ولكن لمن هذه الزينة؟ أفهم أفهم كل شيء هههه...

:-وماذا تفهم؟

:-صبرًا صبرًا بقي يومان فحسب.

فأصبح يضحك جاهد وهكذا ظل المزاح بينهما إلى أن انصرفت "سارة" وود لو ظلت هذه المحادثة إلى الأبد يا ليتها يا ليتها! فجلس شاحب الوجه ولا يستطيع أن يواصل هذا التمثيل والتصنع ولا يستطيع قلبه أن يحتمل هذه الحرقة التي تنهش أحشاءه كلدغة العقارب وتكوي أضلاعه وجوانبه فكلما يحين موعد وداعها كلما يهيج  الشوق ويغلي لاعج الهوى كأن قطعة من الوقود قد أصابت مهجته فتلتهب وأحيانًا يريد أن يبوح لها بكل شيء فيتقهقر ويسيطر على شوقه المتمرد على وجومه الذي يبليه ويتلفه مذ تمت خطبتها.لا يستقر النوم في عينيه ويململه الأرق على سريره ويربكه خوف فقدانها ففتح موبايل وتاه في صورها التي التقط بعضها وجمع بعضها من غيره ثم صعد إلى سقف البيت وبدأ يرنو إلى البدر الذي ينعكس ضوؤه على دموعه المترقرقة في حداقه السوداء فانهلت سرعان ما وابتلت بها الأهداب والخدود وتلوح أمامه الطفولة التي امتازت بأمانيهما وأحلامهما والمداعبة والسذاجة حيث كان يأتيها "جاهد" بأنواع من شوكولاتات وحلاوات ويهدي إليها الورود ويتلاعبون في ساحتهم.يتذكر عندما ساءلته "سارة"الصبية بجدية تتصف بالسذاجة والبراءة وفي عينيها نوع من الغيرة

:-جاهد؟

:-نعم

:-أ لا تزال تأتيك تلك الجنية كل يوم؟

:-تعني (ديكوستا فرنانديز)؟

:-أجل

يقول ويحاول أن يخفي الضحكة

:-طبعًا تزورني كل ليلة وتمسح على رأسي حتى أنام.

أخبرها جاهد بهذه الجنية مداعبة يومًا ما ونسج عندها نوعًا من الأساطير فصدقتها.يتذكر عندما قالت له "سارة" الصبية بسذاجتها البريئة المعصومة

:-لنلعب فأنت زوجي وأنا زوجتك فتتسوق أنت وأطبخ أنا

فكان يجمع لها "جاهد" أنواعا من الأعشاب والورقات وغيرها وكانت تستخدم الماء والوحل توابلَ وتطبخ في تنور صغير بنته لها أمها للعب.يتذكر أنه كان يرمي إليها الكرة فتضربها بالمضرب ويعلمها الطريقة الصحيحة لضرب الكرة ورميها.ويتذكر أنها لما التحقت بالمدرسة الثانوية قالت له أمها أن يصاحبها ويعتني بها أن لا يصيبها ضر ولا أذى وأن لا يزعجها أحد وكانت أمه تثق بجاهد ثقة الأم بالابن وتتوكل عليه وظل وفيًا فلو أراد "جاهد" لربما أقر بما يلتهب في قلبه منذ زمن وربما قبلته "سارة"أيضًا لأنها أقرب إليه وتشاركه كل شيء وتكرمه وتتعود عليه ولكنه امتنع وافتدى الأمانة بسروره  وضحى نفسه وأحيانًا كان يشعر بأن "سارة"معجبة به وتشعر بما يشعر لها ولكن فورًا يستعيذ بالله من هذه الأفكار السيئة ويؤذي نفسه ظنًا أنه لا يستحقها ولن تفكر في هذا أبدا وتستأهل ملكًا ولا ولدًا عاديًا عاطلًا مثله ويؤذي نفسه ظنًا أنها تعتبره صديقًا وأخًا وفيًا ربما ولم ينتهز حتى لم يقابلها  بنظرة شهية قط وكان يقمع كل الخواطر المنكرة وما يحوك الشيطان في نفسه. فقط كان يخالسها من نفذه عندما تستعد للمدرسة ثم ينتظر وهي تخرج من المدرسة فيستلمها ويعود بها إلى البيت فبينما توغل جاهد في هذه الذكريات إذ تنفس الصبح وأشرقت الشمس واختفت النجوم في السماء الضحوك ونُوديَ "تعالي شبنم (أم جاهد)ها قد حان وقت حناء سارة وكركمها" وأغمض جاهد عينيها الحمراوين الغائرتين المكتحلتين بكحل السهاد والدموع.