المنظمة العالمية للإبداع من أجل السَّلام/ لندن

رواية "الراية البيضاء" (الدرفش)، عناق الحكي وأجناس علوم الإنسان مقاربة سوسيوانثربولوجية لرواية عبد المحسن حمودي

23-07-2023


177 

رواية "الراية البيضاء" (الدرفش)، عناق الحكي وأجناس علوم الإنسان

مقاربة سوسيوانثربولوجية لرواية عبد المحسن حمودي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إعداد، د. الهادي الهروي، باحث، كاتب وناقد من المغرب

1- في البناء الروائي للراية البيضاء

مئتان واثنتين وخمسون صفحة هو العدد الذي تتألف منه الرواية، يقسمها الروائي "حمودي المقيم بالسويد" إلى أربعة عشر بابا، ألبس عتباتها كلمات متضمنة لنغمات تعبق فونيماتها صوتا وهاجا رومانتيكيا وكأنها تجسد رحلة "مندا" إلى الجبل الأبيض مثلما جسدت الأسطورة الألمانية رحلة الفارس الشاعر "تانهاوزر" إلى جبل "فينوسبورغ" حيث تقطن الإلهة "فينوس"، أو "إلينور؟" والتي حولها "رتشارد فاغنر" إلى أوبرا موسيقية ملحمية فاخرة. ينقلنا الروائي حمودي في هذه الأبواب من فضاء إلى فضاء آخر متمم للأول ومتناغم معه. وبصورة تاريخية وفلسفية ورومانسية تارة، وواقعية تارة أخرى، يزج بنا في "عالم "مندا" وبلاد "الأهوار" ومدنه المليئة أحلاما وأحداثا واقعية وميثولوجية. أما النسق الهندسي للرواية فيتأسس على لبنة السرد الروائي التاريخي المدعم بالمخطوطة والموظف لرؤية فلسفية عميقة ونسق أنثربولوجي يتسدعي مشرحا لتفكيكه، مستعينا بمشارح  فينومينولوجية وأدوات همينوطيقية لسبر حقيقة أحداثه، مما يتطلب إلماما معرفيا متينا.

2-حول عتبة العنوان

    توظف رواية الراية البيضاء كلمات ومفاهيم قليلة التداول وغريبة عن المتلقي، لإجلاء هذا الغموض، كان من الضروري توضيحيها. فالراية البيضاء (الدرفش) هي راية الضياء والسلام والحق الراية التي أعطاها الملاك هيبل زيوا(مبروخ اسمة) إلى آدم كيسا وأعطاها بدوره للناصورائيين وتمثل الرمز الروحاني والديني للصابئة المندائيين وتتكون مكن أجزاء وسبعة أعضاء من الآس الطري وقطعة صغيرة من الذهب الخالص وقطعة قماش من الحرير وألياف نباتية أو أحبال وعصا تثبت بشكل علامة الصليب وهي تمثل الجهات الأربعة لوجود الحي العظيم وتجسد الدلالة المادية لجسد الإنسان. ويمثل الدرفش الصليب وكان موجود قبل صلب المسيح. وتمثل الأغصان السبعة عند الصابئة كلمات الحي العظيم السبعة التي من خلالها خلق الرب الكون ويمثل مجموع إكليل الآس رمزا للتعالي وعظمة الخالق. كما تمثل قطعة الحرير الأبيض رمز الطهارة ونقاوة وصفاء الإيمان بملك الأنوا، ويدل غصن الزيتون على ضياء الحي العظيم. ويرفع الدرفش في جميع المناسبات الدينية وأثناء الموت أو الأزمات والطقوس للتبرك به، لذلك كان "مندا" يرفع الدرفش للاستغاثة به ونصرته مثلما انقذه واصحابه الأربعة من قبضة اصطخبر (ص.121).

        3- طبوغرافية أمكنة الحكي في الراية البيضاء   

       تجري أحداث الرواية وعمليات نَقْلِها بفضاء قرية "منداي بالأهوار" على ضاف نهر الفرات إبان الحضارة السومرية، وهي منطلق رحلة "مندا" نحو الجبل الأبيض  موطن الأطهار ومكان إقامة السوسنة البيضاء التي خصها الكاتب بأوصاف ونعوث الحسن والجمال والقدسية.

         4- طبونومية أسماء أشخاص الرواية

      يوظف الكاتب في روايته أسماء غير معتادة لشخوص، وإن كانت أسمائهم أسطورية فإنها تبقى في الحقيقة واقعية ومنفتحة على احتمال ما تحمله من معنى ودلالة ورمزية، ومن بينهم البطلين الأساسين "مندا" و"السوسنة البيضاء" لقد أفاض . أوصافا ونعوثا متصلة بأبطال الرواية وعلى رأسهم فمندا شاب صابئي نقي طاهر متشبع بالتعاليم السامية والروحية لمذهب الصابئة، متميز بالصبر والتعفف والود والرأفة، وهو محب متيم أبدي بالسوسنة البيضاء، ساحرة قدسية عذراء النور هابطة من عالم الأطهار(ص.12). الشيخ ذو اللحية البيضاء والوجه البهيج الوقو، اشتهر برؤية الأحداث وقراءة التاريخ ولقب ب"الهبة النورانية" في وقت اندثار القيثارة السومرية، شيخ عارف حكيم، يتنبأ بالقادم من الوقائع خيرها وشرها. قيثارة السومرية أو قيثارة "أور" تعد أقدم أداة موسيقية ذات أوتار في الحضارة السومرية، منحها الرجل الطيب المغامر الجريء صياد السمك والخنازير والطيور "حمدان" 1ل"مندا" بعد رحلة مندا وأبيه إلى الهور. ناوله حمدان القيثارة وطلب منه الحفاظ عليها لأنها سومرية(ص.88). الملك هيبل زيوا(مبروخ) ملك من عوالم النور ويعني واهب الضياء وهو بمثابة جبرائيل. "أرو بن الرهوة"،  "أور" ملك أو أمير مؤسس ٍسلالة "أور" الثالثة في مدينة "أور"2، كان عدد ملوكها خمسة حكموا أكثر من مائة سنة. و"أرو ابن الرهوة" في الرواية هو شخصية تنشر الرعب والنار والإبادة والإحراق. "جلجميش"، وصف بالطاغية والاستبداد، ملك الوركاء في الحضارة السومرية، له ملحمة شعرية هي ملحمة جلجميش من أقدم الأعمال الأدبية الكبيرة التي خلفتها البشرية، وثاني أعظم النصوص الدينية بعد نصوص الأهرام يعود تاريخ القصائد إلى عصر سلالة أور الثالثة 2100 ق.م.، احتفظ التاريخ بنسخة بابلية من قصيدة لم يتبق منها سوى بضع من ألواح الطينية الإثنا عشر، وهي تلك التي جمعها "سين-لقي-ونيني" ويعود تاريخها إلى ما بين القرنين 13 و 10 ق. م. وتحمل عنوان (هو الذي يرى الغيب)النصوص. الإله "ديموزي أو ديموزيد" هو الإله  "تموز" زوج الإلهة "أنانا" إلهة بلاد الرافدين القديمة المرتبطة بالحب والجمال والجنس والرغبة والخصوبة والحرب والعدالة والسلطة. عبدها الأكاديون والبابليون والسومريون تحت اسم "عشتار"، وعرفت باسم ملكة السماء وارتبطت في التنجيم بكوكب الزهرة وفي علم الأبراج برمزي الأسد والنجمة الثمانية أضلع. شجرة الأرز، شجرة مقدسة سحرية بغابة الأهوار قرب الجبل الأبيض، صفتها كصفات شجرة الزيتون، الشجرة المباركة والنخلة سندريكا. ومن بين شخصيات الرواية ورموزها الصياد عبيد، الجبل الأبيض (باروان)، الكنز الذهبي، تعويدة الخلود، مجمع الآلهة، فرات زيوه " الفرات النوراني في عالم الأنوار (يردنا).

   5- زمانية (Temporalité) الرواية بين الحال والمفترض

     إذا كان كل عمل أدبي بأجناسه الإبداعية المعروفة لا ينتج في غربة واغتراب عن واقع الحياة في أناتها الثلاثة، إذ يرتبط بهذا الواقع أشد الارتباط ويحاكيه ويعكسه، فإن ما يجعله ينحرف نسبيا عن مهده هو تعدد القراءات و المقاربات (تاريخية، أرشيفية، تفهمية، نقدية، تحليلية، تخييلية، تأويلية، سوسيولوجية ، فلسفية، أنثربولوجية…). ورواية "الراية البيضاء أو الدرفش" لا تخرج عن هذا الإطار لكونها تروم نقل واقع شكل جزءا من التراكم التاريخي لحضارة ما بين النهرين والتعريف به، إلا أن  تعدد القراءات والتأويلات تجعل من  حقيقة نص الرواية عقدة غوردية(Nœud Gordien) لتداخل مرجعيات المنطلقات والإدراك.   

فرواية "الكاتب حمودي" تفيض عن حدودها المكاني (منداي) والزماني لتحلق فوق حدود الماضي والحاضر، وبين الحدين تخللت الاستمرارية؛ فلا فائدة في الانسداد الى الماضي مادام أن مندا سافر في حلمه إلى ما فوق المعتاد، إلى "الميتاممكن" مرتع الروحانيات ليعود محملا بالأسرار المفرحة لعالم مال فيه الناس للشرور والحروب والفوضى، وهذه هي رسالة "مندا" (رسالة الكاتب). بذلك، فأزمنة "الرواية البيضاء" متعددة، منها زمن الموت، وزمن الانبعاث والعود الأبدي، زمن الحلم والخيال، وزمن الذاكرة أو الأثر "البرغسوني"، زمن الاشراق والروحانيات، وزمن السرديات التاريخية (l'historico-narratif) في الرواية من منظور الكاتب، ما يجعلها منفتحة على لا نهائية الزمن وهو زمن ارتكاسي.

  6- البعد الوجودي الأنطولوجي

     الكينونة مجرد حياة مدمرة ومخيبة للآمال (فالحياة ضرب من الصدفة المبهمة والملتبسة). من هذا المنطلق، تعكس الرواية قضايا فلسفية عميقة عكست نظرة الصابئة المندائية للكون والوجود وللحياة والموت والفناء والاستمرارية والامتداد(Extensia)، ف"مندا" هو امتداد للمذهب الصابئي ولديمومتها ومبادئها المتدفقة التي لاتحد بزمن ما دام هناك اخصاب وتكاثر ونماء. وتتضمن عودة "مندا" إلى عالمنا عودة التوازن الأخلاقي والروحي لعالم غزته الفردانية والأنانية وانهيا القيم، وكثرت فيه الشرور والحروب. بذلك تشير الرواية إلى وجود علمين: عالم ما قبل السقطة، وهو عالم نورانى عادل، ميزته الحق والخير والمحبة والسلم، وعالم ما بعد السقطة الذي قذف فيه "مندا" (الإنسان) من دون استشارته، وهو عالم الشر والكراهية والجور والدم عالم مظلم فاسد شبيه بكهف "أفلاطون". لهذا جاء "مندا" يحمل رسالة بأسماء الحق العظيم تدعو البشرية  للحب والسلم والخير والصدقة ونبذ العنف والدم والقتل والانتقام، والتفكر في مصير الانسان وفي الوجود والعدم والزمن(جون بول سارتر ومارتن هيدغر)[4].

 7- البعد الفلسفي في الرواية

       يؤكد الكاتب على مهارة التأمل والنظر، تـأمل الموجودات والعالم والوضعيات الاجتماعية (السوسيو سياسية واقتصادية والدينية) للمجتمع المندائي؛ فقد اندهش "مندا" من كثير من الأشياء الباعثة على المساءلة مثل كيفية الخلق والموت والحياة والعودة الى الزمن الماضي والبعث من جديد في عالم مغاير للسابق، ثم عملية الإخصاب (صورة سقوط حبة التمر في الماء)، مما يفسر كون الحياة رحلة مضطربة بسلطتها وتسلط أهلها الفانيان. ويبرع الكاتب في توظيف أسطورة الكهف عندما صورة الفتية الأربعة الدين اختبوا في مخبأ بقصر "اصطخبر" دلتهم فتاة حسناء عليه وفتن بها "يحي" . لقد اندهش "مندا" ورفاقه أيضا من ظلمة المخبأ الذي ليس سوى رمز للحياة الدنيا ولعالمنا المظلم، حيث لا نشهد فيه الحقيقة، إذ كل ما فيه زائف وظلال، في حين أن عالم الحقيقة هو عالم خارج الكهف، عالم النور والضياء والشمس والحقيقة، كما سبق الذكر، (ص.143). فالدهشة الفلسفية سؤال عن المجهول ومعنى الحياة استمراريتها وفناؤها (جدلية الحياة والموت، ص.167). ما يعزز توظيف الكاتب للأبعاد الفلسفية في الرواية طرحه لسؤال رحلة "مندا" في فقرة "حراس الأبواب وإدراك الجوهر"، وهي أسئلة قاضية بالجواب الصحيح عن لغز، لفتح الباب الأول كي يلجه "مندا" والشيخ الغريب، ولما فتح الباب طرح السؤال الثاني وكان يدور حول الهوية واعتبار الحياة رحلة مؤقته تبدأ وتنتهي وينبغي التخلص من نواقصها ومغرياتها. ويعرض الكاتب "حمودي" بشكل فلسفي عميق تجربة الموت، الموت باعتباره تجربة ذاتية لا تنطبق على الغير، وغير قابلة للتجريب؛ لكن "مندا" عاش الموت كتجربة وعاش كيفية انتقاله إلى العالم العلوي وبلوغ " سدرة المنتهى"، السدرة ذات النبق الذهبي، ودخل عالم الفيوضات الربانية، ثم عاد من جديد إلى عالم مغاير ذي زمان آخر ومكان مغاير، عاد إلى مدينة الزوال الدموية الفاسدة. ولعل من الغايات الفلسفية الكبرى التي تثيرها الرواية، غاية الحب والسلم والتسامح والصفح والوداعة والبحث عن الحقيقة، وهي غايات ظل مهوسا بها وبالتساؤل عن فحواها وعن دورة الحياة والديمومة والزمن. الزمن الذي ظل يعاتبه الكاتب من خلال البطل " مندا"، الزمن كتجربة نفسية معاشه، وكشعور بحياة ضنكي لا طعم لها في عالم تلفه الفوضى ويغوص في الهموم والدماء.

    8- موقع الأسطورة في فضاء الحكي عند حمودي

        الأسطورة نمط تفكير وتعبير عن حياة شعب ومنطقه وطريق عيشه ورؤيته للأشياء وللعالم. من هذا المنطلق كان للأمة الصابئية المندائية نمط تفكيرها، وهو بالضبط ما حاولت الرواية نقله وتعريفنا به من خلال قراءتها وسردها للأساطير السومرية، كأسطورة طوفان "جلجامش" والحكي الميثولوجي لمجلس "الانوناكي" أو مجلس الآلهة، وصراع الثور مع البطل جلجامش، الثور الذي أرسلته الإلهة "أنانا" لرفضه الاغراءات الجنسية للإلهة "عشتار"، مما دفع عشتار الغاضبة لمطالبة والدها "انو" بخلق الثور السماوي ذي الأنفاس الحارقة لمهاجمة جلجامش في «أوروك". و"أنانا" هي إلهة بلاد الرافدين القديمة المرتبطة بالحب والجمال والرغبة والخصوبة والحرب والعدالة والسلطة والسياسة، عبدها "الأكاديون"و "البابليون" و "السومريون"، وعرفت باسم ملكة السماء. ارتبطت في التنجيم بكوكب الزهرة وكان من أبرز رموزها الأسد والنجمة ذات الثمانية أضلع، وتزوجها الإله "دوموزيد" (تموز). كما وظف الكاتب أنواع الطيور الخرافية التي كان سائدة في عصور ما بين النهرين، مثل البومة التي كانت الناس يتطيرون بها، و كان يراها البعض على أنها تلجأ إلى الليل فرارا من شرا البشر و تصوم نهارا حزنا على طغيانهم و استبدادهم، لذلك فهي كانت طائرا مقدسا. في حين اعتبرها آخرون طائرا ساحرا تسكن أرواح الموتى هذا إضافة الى الصور الأسطورية والخيالية التي تحبل بها الرواية مثل الأشجار المقدسة و الأزهار الذهبية و الأرواح وأبواب القصور العائمة المحاطة بالغابة الملحمية التي كان يحرسها "الحارس القوي خومبابا" و الذي خلق ليحمى أشجار الأرز العظيمة. ناهيك عن الثعابين السامة الضخمة التي تحمى الكنوز واللآلئ مثل كنوز سليمان الذهبية. وتجدر الإشارة هنا إلى تشابه الثقافات والأساطير في الديانات الشرقية خصوصاً في منطقة بلاد الرافدين. فإذا كان "مندا" يبحث عن "السوسنة البيضاء" المحمية بالجبل الأبيض من طرف الجن والثعابين والأرواح، فإن "طفلا صغيرا، كما جاء بإحدى المؤلفات الغنوصية التي تعد الأكثر جاذبية والمسماة "ترنيمة رداء المجد" أو "ترنيمة الروح" أو " ترنيمة اللؤلؤة" (Hymn of the Pearl) ، كان يسكن في مملكة أبيه، استمتع بثروة عظيمة وأعطاه والداه زادا وأرسلاه خارجا عن موطنهم في الشرق لجلب لؤلؤة، ولدى وصوله مصر، وجد أن للؤلؤة ثعبان كبير... يسحر الثعبان ويمسك باللؤلؤة"[5]. أفلا تكون للديانات يحرسها الشرقية الوضعية نفس الإحالات الأسطورية؟ بل ألا تنهل الواحدة من الأخرى، اللاحقة من السابقة؟ ثم ألا تكون اللؤلؤة هي الرمز الغنوصي للضوء والنور المشع المحاط بها الذي ينير الكهف، مثلما تكون السوسنة البيضاء محاطة بنور رباني نور الحق العظيم كما هو الشأن أيضا للنور المشع الذي ينير "الدرفش"؟ ثم كيف تفسر رمزية النور المذكورة بقوة في الأساطير وفي الأسرار الهيلنيستية و لدى المتصوفة وفي كل الديانات الوضعية والسماوية ومنها التوراة والإنجيل والقرآن الذي خصص له آية هي آية النور؟ (الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح...)، الآية التي كانت منطلق الغزالي في تأمله الفلسفي في(مشكاة الأنوار)6

إن الترابط الكبير لكل الأساطير التي جاءت بها الديانات الشرقية العتيقة، تظهر أن التمييز بينها غير ممكن. فتوالد السرود فيها متشابه لدرجة التداخل والأحداث الخرافية تتناسل وتتناسق فيها لدرجة التوالد والتماثل، وكأني بالحكماء الصابئة المندائيين المُحَدِّثِين(الرواة) يبنون أساطيرهم على منوال تلميذهم ومريدهم الجديد "كلود لوڨي ستروس7 ".

  9- البعد الأنثروبولوجي في الرواية

     من أصناف الحكي في الرواية،  نمط حياة شعب الصابئة وكيفية صراعهم من أجل الحياة والتغلب عن تناقضات الوجود. وتعود بنا إلى سرد حضارة كانت راقية أخلاقا وتمدنا ولم تبق إلا آثارها، وبعض الجماعات المندائية المتفرقة عبر ربوع العالم، إذ لازالت تحافظ على عادات وطقوس وتقاليد ومعتقدات وأفراح ومواسم احتفالات وأعياد وأغاني وموسيقى وأشعار وأسماء ورموز الصابئة. إن هذه المكونات الحضارية الدالة أنثربولوجيا على تواجد أمة كان لها شأنها التاريخي في تأسيس حضارة ما بين النهرين، تبدو واضحة في رواية "عبد المحسن حمودي". فقد وظفها في إبداعه مثلما وظف كلمات أخرى لها نفس الدلالة منها: أشكال الفلاحة والزراعة والأطعمة ووسائل الطبخ والنقوش والحلي والوشم عند النساء، والأسلحة وآلات التنقل في الأنهار(المشحوف)، ونمط التفكير ونوع البنايات والبيوت والمساكن والمدن القديمة ذات المعمار العجائبي ك"أور" و"منداي" و"ميسان"، وأشكال الثقافات العتيقة كالثقافة الهيلنية والهيلنيتية والنبق الذهبي أو فاكهة الملوك الذهبية أو"الخريط"، فاكهة يتفرد بها أهل الأهوار. أما الأسماء الموظفة فكلها لها مسحة تاريخية وأنثربولوجية أسطورية، كأسماء الآلهة والملوك الجبابرة كجلجامش و"اصطخبر" والجلاد "القاجري" المعذب للشيخ الجليل "الكونزبرا آدم"(ص.220)، و "خومبابا" حارس الغابة القوي الذي خلق ليحمي غابة الأرز المقدسة كما جاء في ملحمة "جلجامش" السومرية، وابن الرهوة والجن والحيوانات الأليفة والمفترسة. ومن الطيور وظف ما يدل على القوة والخوف مثل "الطنطل" أو الثور المجنح الذي يتخذ أشكالا مختلفة، وأفاعي المياه السامة والخنازير وكلاب الماء و"الرفش"، و"حنفيش" المرعب المخيف الذي يقتل الصيادين (ص.239) والوحش ذو الساقين الطويلين الغليظين الذي يكره البشر ويهاجمهم.

بناء عليه، يبدو أن الكاتب برع في إقحام الخبرة العجائبية والأغنية الشعبية التي كان يتغنى بها سكان الأهوار وقرية "منداي" وأقوال الفلاسفة والكهنة والحكماء، ومحتويات الألواح والأسفار الطينية، ورفع الدرفش في الحفلات والأزمات والأعراس. كما عرض تصورا جماليا لوسط كانت تسيطر فيه الأساطير والتصورات البدائية على كيفية خلق العالم وصراع الملوك والآلهة. ويدعونا لمشاطره النصوص الأدبية ذات البعد الأنثروبولوجي الغنائي والاحتفالات التي كانت تقام في عهد ولَّى واندثر ويجعلنا نقاسمه الأحداث والتجارب البشرية والحضارية والتاريخية والمغامرات الفردية والجماعية، ويدفعنا للانخراط في ملاحم وبطولات عصر الصابئة المندائية وأبطالها، والتعرف على طقوسها وثقافتها وأعرافها وعاداتها وتقاليدها وانشغالات نساءها ورجالها وهجراتها وأفراحها وأحزانها (أغاني القيثارة السومرية...). إن الرواية هنا، تأتي بمثابة "الوثيقة" السوسيو تاريخية والأنثروبولوجية العزيزة الفائدة البيداغوجية أو التكوينية المُعَرِّفَة بماضي الجماعات الاجتماعية التي كان لها دور فعال في نشأة الحضارات الإنسانية بالشرق العربي، والتي لازالت آثارها حاضرة في ذاكرة الصابئة المندائيين في كثير من دول الشتات (la Diaspora) (السويد والدول الإسكندرانية وكندا وأمريكا وتركيا وآسيا)8.

 وتعكس الرواية في لحظة أخرى اللباس المعتمد في عهد السومريين ومنه(اللباس التراثي القديم: الترستة...) وبالضبط عند الصابئة و بالخصوص لدى الكهنة والتراميذ والحكماء، حيث كان البياض هو اللون المفضل لديهم كرمز للنقاء والصفاء، واستعمال البخور ووصف المدينة، مدينة الزوال الحزينة المتعفنة النتنة (إحالة إلى عالمنا الفاسد). إن الكاتب يصور بألم وبصورة دراماتيكية المدينة الراهنة وطبيعة العالم الذي نعيشه، عالم أسلحة الموت الفتاكة والنار، مدينة بمثابة مقبرة الموت التي تفوح منها رائحة البارود، انها مدينة الخوف والألم والهلاك والدمار (ص. 56)، حيث يبين الكاتب من خلال حوارين بين "مندا" وإنسان في مدينة الزوال، أن مضمون حياة البشر في العالم الراهن (السفلي) هو الاقتتال وعدم إدراك القيمة الجمالية الحقيقية للحياة (ص.57).

   10- قول سوسيولوجي في "الراية البيضاء"

      من منظور الخطاب الاجتماعي(Le discours socialنجد في رواية "الراية البيضاء" جمعا بين كثير من الأجناس الأدبية، من سرد وحكاية وسيرة وشعر وحوار وخيال وتناص، ومخطوطة وأقوال وحكم وخطب وأغاني وأساطير وإحالات على نصوص دينية وصوفية وغيرها. أجناس وظفت لنقل الأشكال الثقافية المادية واللامادية  الخاصة بشعب مر في التاريخ وأضحى أثرا. فنقلها لِلإينِيَّةِ الإنسانية ليس بالأمر الهين، إذ يتطلب تكوينا معرفيا موسوعيا وأدوات منهجية دقيقة هيرمينوطيقية وفينومينولوجية ولسانية وغيرها تمكن من فهم نصوص التراث الصابئي القديم وحضارة الأهوار العراقية.   الإصلاح-الفساد

ومن منطلق المنهج الفهمي () تكون مقاربة الأحداث الاجتماعية للرواية أمرا يسيرا، واستيعاب سلوك شخصياتها وأفعالهم وحالاتهم النفسية قضايا هينة، كحالات  الحذر والخوف والعزلة والسعادة وانبعاث الأمل (ص194) والتضامن ضد الفساد والاستبداد والتدمير والاندثار (ابن الرهوة، اصطخبر). في هذا الإطار، تسجل الرواية اختفاء المدينة والحضارة، مدينة السعادة التي تحولت إلى رماد ملتهب وكأنها (هيروشيما أو نكازاكي، أو بغداد وقت غزو الماغول أو جورج بوش لها، أو روما التي تلذذ نيرون بإحراقها). ويعزز المؤلف ذلك بوصف جميل للقيم والعوامل التي جعلت الحضارة الإنسانية تتواري، موضحا علة الاختفاء التي حددها في الأسباب التالية:

1- غياب الحكماء وتهاون النخبة. 2- اختلاف المواقف والمذاهب والخلافات العقائدية، وكأن الكاتب يشير تضارب المذاهب الإسلامية الأربعة (الحنبلي-الشافعي-المالكي-الحنفي)، وإلى اختلاف الفرق وتفريعاتها عبر التاريخ الإسلامي، من شيعة وسنة وخوارج ومرجئة وقدرية وجبرية وجهمية وجهنية ومعتزلة وأشاعرة...  وصراعها المذهبي والطائفي(ص.71). ويقترح حلا لذلك بجعل العقل أثمن ملكة لتدبير الأزمات، والتفاوض على حل الخلافات والدعوة الى التعايش والسلم والعدل والمعرفة. فعندما صادف "مندا" جماعة من الفقراء التعساء الذين لا يعرفون سوى القتل ونشأوا في بيئة العنف والحرب والكراهية والانتقام، وكان من بينهم أربعة أشخاص آملوا من "مندا" إنقاذهم من الجهل والحقد وكأنه رسول يعيد إليهم الحياة من جديد، أمرهم بالتحرر من الماضي و مما يُكِنُّونَهُ لبعضهم البعض من عداوة وكره وعمى، فعرض عليهم مرافقته للبحث لهم عن أرض الاستقرار والأمان، وحثهم على القراءة والانعتاق من الجهل و اليأس و الاغتراب.

فما دلالة الرجال الأربعة الذين أدركوا من خلال كتبهم ألا شيء دائم وأنهم رغبوا في استبدال حياتهم بحياة أفضل عملا وسلوكاً؟

  1. كان الغلام اليافع ذو الكتاب الموسوم (نور الأنوار) والذي سماه "مندا" "يحي"، يطمح إلى التحرر من بلد تعمه الفوضى ولا أمل له فيه من عيش واستقرار، لذلك كان ممسكا بكتابه بشدة عساه يحرره، أفلا يكون هذا الغلام في المستقبل نورا ورسولا لشعب مظلوم؟
  2. الشخص الثاني: وسماه "سام " عمره حوالي 20 سنة كان يمسك بكتابه (منبع المعرفة)أية معرفة؟ إنها معرفة الحي العظيم.
  3. الشخص الثالث: (زيوا)، تجاوز الثلاثين وهو سن العمل والأمل، كما يدل ذلك على كتابه (شجرة الحياة). إن للشجرة جذور وفروع، فهو رمز للفروع والثمار الطيبة والاستمرارية(شجرة مباركة)، ثم أفلا تكون هذه الفروع هي أغصان الآس السبعة للدرفش؟
  4. الشخص الرابع: سماه "مندا" (زهرون) تجاوز الأربعين من عمره وكتابه باسم (فراق الأحباب). هل يرمز الكتاب الى الرحيل والفراق ومغادرة الحياة الدنيا؟ هل دخل زهرون المدرج الالتزامي الكيوكغادري؟ ثم هل الأسماء مداج النمو من الطفولة إلى الشباب إلى الشيخوخة والتدرج من البداية نحو النهاية؟ - ثم هل ترمز هذه الشخصيات للمذاهب الأربعة المختلفة التي اعتبرها البعض عائقا للانطلاق نحو نمو الدول العربية وتقدمها؟ أم هي فقط المراحل التاريخية للحضارة السومرية؟

11- شبكة العلاقات البؤرية 

       إن شبكة العلاقات المتضمنة في بعض أبواب الرواية، تعكس نمط الترابطات البشرية والبؤر الصراعية والحروب التي سادت بعض مناطق ما بين النهرين ومنها منطقة الأهوار. وقد تضمن نص الحكي أنواعا من العلاقات الداخلية والخارجية، وكَوَّنَ مجمل البؤر الشاذة في الرواية، منها العمودي ومنها الأفقي، كعلاقات التراتبات الطبقية، وعلاقات الوجاهة والسلطة والخضوع والطاعة لكبار القوم(طاعة الناس لاصطخبر) ومدى تأثيرها على هياكل المجتمع الصابئي ومنها:

1- علاقة ساكنة قرية "منداي" بالمستبد "اصطخبر" المطبوعة بالخوف والاستبداد وممارسة السلطة المفرطة وقطع الأذرع والقتل والتسخير والاغتصاب ونشر الرعب والعنف. 

إن الاحتواء الضمني والرمزي للرواية على هكذا مفاهيم وتصرفات و صور علاقات استبدادية دموية، يوضح ما انطبع عليه العصر الذي تواجدت فيه الصابئة المندائية وما تعرضوا له من محن وأزمات ونمط حكم  وأحداث قاسية.

2-علاقة "مندا" مع أبيه وأمه، وهي علاقات عاكسة للتماسك العائلي والتفاهم والاحترام والصدق والحب والأمان وحسن السلوك والتربية في توجهات التنشئة الاجتماعية الصابئية.

3- راتبية طبقات المجتمع الصابئي وشبكة العلاقات بينها، كوضع التراميذ والكهنة والحكماء في نظام الدولة وعلاقتهم العمودية والأفقية في المجتمع.

4-علاقة "مندا" مع الشيخ العجوز ومع حمدان ومع رفاقه الأربعة الذين خضعوا لتأثيره المذهبي ورافقوه في البحث عن حياة أفضل وأنقى.

5- سيادة فلسفة التسامح والحميمية والود على مفاهيم الحرب والكراهية والانتقام والغش لدى الأطهار من الصابئة.

وبناء عليه، فإن التبئير الذي حاكه الروائي "حمودي" في هذا الحكي السوسيوتاريخي التوثيقي والأنثربولوجي، ينتهي بفرح وسعادة واستمرار الصابئي في الوجود وحبه للحياة وإثبات هويته وانتزاع الاعتراف به في عالم لا يعترف بالأقليات.

    12- تجاذب السياسة والتاريخ في الراية البيضاء(قراءة في المخطوط)   

     إن الكتابة عن الأحداث السياسية في عهد الصائبة المندائية هي كتابة في الكتابة، كتابة في التاريخ، إذ التواشج بينهما عميق لدرجة استحالة التمزق بين الواقعة الحدثية والواقعة النظامية، كما أن الانقطاع بين الاثنين ينتظم بدوره في مُدَوَّنَةِ (Corpus) دين صابئة عه‍د ما بين النهرين. من هذا المنطلق يعود بنا الروائي "حمودي" إلى مخطوطة تروي عن طبيعة الحكم في مملكة الأهوار وحضارة السومريين ومدنهم ومحن الصائبة وتاريخهم. فقد ورد في المخطوطة المتضمنة في الرواية، أن السلطة كانت استبدادية حيث مارس الملوك المتعاقبين على مدينة "منداي" و "ميسان" القهر والتفقير والقتل، كما مارس آخرون العدالة والرفاه والسعادة، فكان منهم الاخيار والاشرار. ويمثل "اصطخبر" نموذج الحاكم المتجبر المستهزئ بالبشرية والقاهر لشعبه المستسلم. لقد وظف "اصطخبر" آليات الضبط والكذب والتخويف والترهيب والاستسلام، حتى أن الجهلة الأغبياء من شعبه نزعوا عن أنفسهم كل الصفات الخيرة وأضفوها إليه، ويذكرنا هذا الحدث برأي "ليدوين فيورباخ" وموقفه من صفات الله وقدرته صفاة البشر وقدرتهم. لقد تميز عهد " اصطجنر" بالحروب وإراقة الدماء والتعذيب. ألا تكون وضعية عصره مماثلة لما تعيشه الدول العربية والإسلامية الراهنة في صراعها ضد الهيمنة الغربية والغزو الامريكي؟ ألا يشبه السلوك السياسي "لاصطخبر" بممارسة القتل والتعذيب الذي تقوم به الحكومة الصهيونية الاسرائيلية حاليا؟ ألم يماثل "نتنياهو" القائد الروماني "تيتوس" الذي دمر أورشليم وقتل 360 ترميذي (رجل دين) وآلاف الصابئة؟.  وتتابع المخطوطة سرد التاريخ الطويل للمندائيين الداعين إلى السلم والإسلام ومحبة جنزا ربا المبارك وتوحيده ونبذ الشر والتصدق ليعم الخير في أرض النور ومدح الراية البيضاء. وهي القيم التي يدعو إليها "الشيخ العجوز الغريب" الناقد لمتاعب الدنيا ولناقضي العهود والوفاء. فمن هم الصائبة المندائيين؟ وبماذا تميز تاريخهم وماهي المحن التي لحقت بهم؟

     يرى الدكتور حسيب شحادة من جامعة هلسنكي في مقال له أن ""المندائيون هم طائفة كتابية غنوسطية صغيرة، متعمدين عرفانيين عاشت على ضفاف دجلة والفرات وفي الجنوب الغربي من إيران مند ألف عام. لهم عدة أسماء: المندائيون المنداعيون، الصابئة الصبة، المتعمدون، العارفون، المغتسلة، السابحة، الكشطيون، (أصحاب دعاة الحق) الكيماريون، الرشيون، الأنباط العراقيون، شلماني (المسالم) اليحياويون (أتباع يوحنا المعمدان) النوصاريون، الأدميون، الحرانيون (أهل حران)، المصطبغون، صائبة البطائح، المتنورون، أو أبناء الماء والنور، أتباع إدريس، صاغة الفضة العماريون، نوارس الرافدين بهيري زدقا الصادقون المختارون". ويستدعينا الكاتب "حمودي" للإقامة مؤقتا بحضارة بلاد الرافدين القديمة والعودة الى القرن 20 ق.م ويحيلنا على الألواح الطينية التي سجلت ملاحم الشعب العراقي وأهم النكبات التي عاشتها الطائفة المندائية أو الصائبة المندائية. ورد في المخطوطة أن الصابئة المندائية أهينت في أورشليم من طرف الكاهن "كوهن غدول" سنة 70 م. وترضت للإبادة من طرف الملك الساساني برهام الأول، ثم من طرف الكاهن الزرداشتي كارديل سنة 273 م. (ص.216). كما تعرضت للتهجير والإبادة والقتل في عهد الوالي محمد بن مروان بن الحكم الأموي في القرن 7 م. ومن طرف أخو الخليفة عبد الملك بن مروان (صاحب السلطة) الأموية والعباسية. وفي عهد الخليفة العباسي القاهر بالله (932 م-934 م.) عاشت الجماعات الصائبة أحلك أيامها. وبعد فتوى فقهية تجاهل فيها "أبو سعيد الاصطخري" أن القرآن الكريم ذكر الصائبة ثلاث مرات في ثلاث سور،  ولم يعر ديانتهم أي اعتبار. عانت الصابئة الإبادة والتهجير وقطع الأذرع والرؤوس خصوصا إبان السلالة "القاجرية" عام 1780. واستمرت حملات الإبادة الجماعية والتطهير الديني العقدي مع مذبحة "شوشتره الماساوية (1870) ومدذبحة " استرباد" أو "أردوشيم"، ومذبحة ناصر الدين شاه بإيران الذي قتل من طرف "ميرزا رضا كرماني" وهو أحد تلامذة جمال الدين الافغاني عام 1896. وفي كل محنة كانت الصابئة تستغيث بصلواتها للحي الأزلي النوراني باسم الحي العظيم، مثلما كان يفعل "الحلالي" ومثلما كانت وصية الصابئة تؤكد عليه: «أيها الصابئي المندائي !.. يا ابن النور، تعلم كلام الله وتُعَلِّمْهُ جنزا ربا المبارك. بأسماء الحي العظيم، رأس المحبة أن تشارك إخوانك في محبة ربك جنزا ربا المبارك يا أصفياء الله وحدوه والشر لا تقربوه، والصدقة أعطوه، فمن لم يستطع فليؤد نصفها، وسأحسبها له كاملة في أرض النور "جنزا ربا المبارك".

  13- المستوى اللغوي وجمالية الصورة 

      "الراية البيضاء"، عمل إبداعي جذاب بصوره الفتوغرافية والتشكيلية الرائعة والدرامتولوجية والاثنوغرافية البديعة، كصورة الجاموس الذي يقوده طفل شب عاري وهو راكب على ظهره، وكان الجاموس يغوص في الماء، وهو المنظر نفسه الذي شاهدته بالهند عندما كنت مسافرا في رحلة من "كولكاتا" إلى مملكة النمر البنغالى ب(ساندباس   Sundarbans) ، على الحدود البنغالية وصورة السوسنة البيضاء المخلوقة الإلهية الفاتنة الجمال والحسن، المتفتحة وسط الأزهار العابقة بأريج متدفق جذاب، وعناقها مع "مندا" حيث تسربت أنفاسها الطيبة إلى أنفاسه. "لم يكترث لخجله، فضممها ضما فيه لهيب روح، فيه أريج وجود وفيه تمازج ووحدة انبعاث لجسدين في جسد واحد" (ص.258). ولا يخلو وصفه من جمالية وعذوبة ذوق الكلمات المنمقة الزاهية الخاصة بتناوله لوصف النساء (ص.77.76) وتوظيفه المحسنات البديعية والبلاغية من شجع وغناء وبيان واستعارة ومجاز وموسيقي، خاصة عند وصفه القرية والقيثارة السومرية، وجداول روافد أنهار الأهوار، وتصوير أمه تخبز رغائف الخبز على القش، وجماعة الفقراء التعساء، وانتحار الطائر السعيد لعدم رضاه بالبشر وموت سيده (صورة الوفاء والإخلاص).

   لكن تتعقب هذه الصور الجميلة، والوصف البلاغي والتخييل الراقي صور دراماتيكية، حيث الحضور الكثيف للدراما في الرواية خاصة تأكيد الكاتب على مآسي الحروب في عالمنا، عالم والحديد والنار والحرائق والطوفان والعواصف والثلوث(ص.104) والقتل وأنواع مظاهر الاستبداد والتكتلات الإيديولوجية  بين "الغربان والصقور السوداء والذئاب الضارية من أشباه اصطخبر وجلجامش"، وظهور الحيوانات الخرافية النارية والعجائبية السامة، و"ابن الروهة. وبرومانسية حالمة يصف جمال صاحب (الدرفش) الطبيعة في عهد الخير والماء والنقاء وسرد قصة حب "مندا" وطفولته وحلمه بالسوسنة البيضاء، وهو وصف يذكرنا برواية (Alain Fournier) للروائي الفرنسي (Le grand Meaulnes). أما الأشعار الواردة في الرواية التي كان يتغنى بها "مندا" فجعلها أشعار حب (ص.111) وعتاب وإشراق وتصوف وهجاء الزمن ومناجاة الليل ولوعة وصبابة وبكاء والبحث عن المفقود، وأمل للرحلة إلى السماء والعود الأبدي، ووصايا وحكم. ومن بين أبرز الحكم: «العقل أثمن إدراك للوجود (ص 71)، لا يرد الكريم البخيل (ص. 88)، الشجرة المثمرة لا تأكل ثمارها، مهما امتلك الإنسان العلا فلا بد أن يسقط منهارا، النيازك تحرق نفسها كي تضيء الطريق للأخرين (ص.136)، التسامح لا ينفع مع الأشرار الذين لا يجري في عروقهم الكره (ص250).

       وفي الختام، إن عنصر جمال التصوير والأسلوب والسبك السردي لأحداث الرواية وطابعها الدرامي والملحمي، يمَكِّن من إيقاظ فورة الجذب والتشويق والمتعة لدي المتلقي. وقد تمكن الكاتب من تأجيج جذوة إحساس القارئ بجمال عرضه لجدلية الحياة والموت وصراع الخير والشر، وتصويره الغنائي للمناظر الطبيعية الرائعة بالأهوار وأبان عن ذوق راق وشعور فياض ولذة جياشة. كما تتميز، سيميولوجيا، بكثافة الأحداث وكثافة الكلام الأدبي وتنبني على التذكر والحلم، حلمه يقوده إلى عالم قريته التي لم يبلغها واقعه، قريته التي هاجرها ويسترجع الماضي.. كم عام وعام غبت عنها؟ علي أن أتذكرها (ص.66) أنا من ذلك العصر سواء كان بعيدا أو قريبا، لا أعرف كيف أستغرق في المسيرة من قرية منداي إلى الجبل لأظفر السوسنة بالبيضاء وأروح أعزف موسيقى إيقاع حياتي ؟ وكم تستغرق ذاكرتي من زمن نفسي لاسترجاع ما بطن فيها من ذكريات مسار حياتي قبل رحلي؟ كم هي قاسية ورهيبة عملية انبعاثي من جديد من بحيرة البلوط وغابتها () والعودة إلى "العراق برافديه دجلة والفرات ونخيله السامق وهوائه العليل" لأعزف فيه أنشودتي الخالدة، سنفونية الذكرى والأثر، سنفونية الحمامة الزاجلة في أنشودة هويتها الخالدة، أفلا تكون بالتالي "الراية البيضاء" سيرة ذاتية؟ ألا تكون رحلة الكاتب شبيهة برحلة "مندا" المغترب في عالم بلا قيم أصيلة؟ ألا يكون عالم الكاتب المبدع "حمودي" هو عالم ما وراء العراق الذي اضطر لهجره؟


 ( استمعت يوم 29/06/2023 بقناة الجزيرة  بنبأ قلة الماء بنهر الفرات بضواعي الأهوار لدرجة التاريخ،  اكتشفت في مقبرة أور الأثريية في جنوب العراق من طرف ليونادرد وولي ما بن 1922 و1934 في الحفريات التي جرت هناك يخرج القيثارة من التراب ،  ( هل كان حمدان هو وولي؟) حمدان صاحب القيث الجفاف، حيث كثرت الأعشاب والنفايات ولم يعد يجد الصيادون أسمالك يتاجرون بها بل أصبحوا يستوردونها ، وهذه الصورة شبيهة بتلك التي توجد بالرواية لكن الماء متوفرا).

1 أور. موقع أثري لمدينة كانت عاصمة للدولة السومرية جنوب العراق عام 2100ق.م ص31.

 [4] جون بول سارتر الوجود الع Sein Sun Und Zeit  ( (Martin Heiddergeir) ) J.P. Sartre : "L'être et le  néant دم

[5] يذكر "ليوبا" في كتابه (سيكولوجيا الصوفية الدينية) عددا من تجارب مماثلة، وقرر أن لا خلاف حولها لأنها "فيزيولوجية في لأصل" إذ ليس بالإمكان الشك بالسمة الإدراكية الحسية لهذه التجربة.جون فيرغسون الموسوعة الصوفية والديانات السرية.ترجمة محمد الجورا. ص.87.278

6 الموسوعة الصوفية. ن. م. ص.276

7 Cf.Claude Levy Strauss.-)La Pensée Sauvage 1962 Tristes Tropiques 1955. L’homme Nu 1971(

8 - إلهام زكي خابط- (مراسيم الطقوس المندائية في مدينة "مالمو جنوب السويد)، الحوار المتدن، 23/5/2009 .