قراءتي في رواية " عشر صلوات للجسد " للكاتبة العراقية ابنة البصرة، الدكتورة وفاء عبد الرزاق
17-07-2023
179
قراءتي في رواية " عشر صلوات للجسد " للكاتبة العراقية ابنة البصرة، الدكتورة وفاء عبد الرزاق
بقلم: باسمة العوام
قراءتي في رواية " عشر صلوات للجسد " للكاتبة العراقية ابنة البصرة، الدكتورة وفاء عبد الرزاق ، والصادرة عن دار أفاتار للطباعة والنشر في طبعتها الأولى عام 2020 ، بعدد صفحات( 226 صفحة ) ولوحة غلاف للفنان العراقي / صالح كريم .
****************
عندما تقرأ العناوين التي تختارها وفاء عبد الرزاق ، تحلّق بك أجنحة الخيال بعيداً ، يغوص العقل في عمق أعماق التفكير ، وقلبك يخفق متسارعاً نبضه بأحاسيس ومشاعر تلامس روحك باحثةً عن حضن لأنفاس مبعثرة ؛ كما في هذه الرواية " عشر صلواتٍ للجسد " .
أيّ جسدٍ هذا الذي ارتكب الإثم والمعاصي فأقيمت لأجل توبته الصلوات ؟ أم هو الجسد الضحيّة الذي أقيمت به القداديس وقُدِم قرابين لأجلها ؟ وأيّة صلوات تلك التي أقيمت لأجل جسد ؟ في أيّ المعابد وفي حضرة أيّ إله ؟ أم أنه الجسد الذي يؤدي تلك الصلوات ؟ ولماذا صلوات عشر ؟ وماذا يعني رقم عشرة في العبادة ؟ أهو رمز لأماكن مختلفة ، أم لأزمنة مختلفة أو عشرية زمنية تعبر فوق هذا الجسد ؟ في أيّ عُرف أو دين أو مجتمع أو ثقافة سنجد الردّ على كلّ هذه التساؤلات ؟
وأيّ جسدٍ من ورق رسمته وفاء عبد الرزاق فوق سطورٍ من ورد ، كعادتها تمتشق ريشة وطنٍ ليله طويل طويل ، محبرتها من أوردةٍ مفتوحة في أجساد مثخنة بالجراح ، تنزف ألماً وقهراً، ظلماً واستعباداً ، تجاهلاً وانتقاصاً من القيم والمبادئ، من المتطلبات والرغبات ، ومن الآمال والأحلام ؟!
__ نلج إلى الرواية ...
الإهداء أو مقدمة معنونة بكلمة إهداء .. تخاطب الكون ، تبثّ فيه أنفاسها ، تتحدث إلى خالد ، ليالي ، وأنهار فتقول :
" الخضرة لاتحتاج لمن يسألها : من أين اكتسبت هذا اللون ؟! أحتاج الآن اتساعاً مختلفا ، لاأحد يسأله عن سره !! فقط أضمُّكما ، كما أنتما الآن احتواء وارتعاش ، هي النسمة الوشيكة على أن تكوّنكما ؛ ليتنفس الكون .
" خالد ، ليالي "، حين طرحت عليكما فكرة الرواية ، تقرفصنا ثلاثتنا على فراش خالد ، وصرنا نبحث عن الطويرات الهائمات ، لنضمهنّ معنا ، كنا في الرسوخ العالي العالي الذي تسلقت إليه الأرض .
" نهار " أمسكي الألم المضاعف ، بهدوئك الرفيف ، طيري ، وامتلئي ، افتحي طريقا لنفسك ، لتكون كل زهرة بستانا ، حتى الألم يحتاجك ، لاتسألينه : كيف السنبلة تتحدى السيول ؟!
__كلمات تجعلك تلهث لتعرف مابعدها ، فنقرأ مقدمة ثانية بقلم البروفسور الدكتور/ محمد جواد حبيب البدراني تحت عنوان ( وفاء عبد الرزاق .. أشرعة الحب الأزليّ ) ..
ثم ثالثة بقلم الشاعر والناقد / هاتف بشبوش ، تحت عنوان ( وفاء عبد الرزاق .. وهوية الانعكاس السردي ) ..
__ نتابع لنصل بداية سرد الأحداث والتي تبدأ بالصلاة الأولى .. صلاة لِ ( أزاهير ) ...
ثم صلاة ل " هينار " _ الثالثة ل " خضرة " _ ل "سارة " _ Bella _ ميلفا _ زبيدة _ جان دارك _ هاريت توبمان _ والعاشرة : صلاة " لنا " .
☆☆ إذا هي الصلوات العشر .. والجسد تكوين واحد فرضته الأقدار وإرادة خالقه ، لتحكمه البشر وتتحكم به العادات البالية والتقاليد البائسة ، وتقهره الذكورة وليست الرجولة ، وتتسلط عليه قوانين ومعتقدات ومفاهيم لاعلاقة للإنسانية فيها بشيء ..
هو جسد الأنثى ..
جسد بلا روح .. كحبة قمح تحبل بسنابل البيدر ..يدفنوها متى شاؤوا ، يستهلكونها ، يستمتعون بعطائها .. وإن أرادوا قتلها ، شنقوا الريح على وجهها ، وَأَدُوا روحها قبل جسدها ، باعوا ظلها للسجون والأسوار ، حمّلوها جثمان الحياة فراحت تعاين لحدها في كل زمان ومكان ..
__ هي المرأة منذ بدء التكوين ، إلى عصر الحضارة والتكنولوجيا والثقافات ، التنوع والانفتاح والتغنّي بالرقي والعدل والمساواة .....
هي المرأة التي قدمتها أ. وفاء عبد الرزاق- متوغّلةً في عمق التاريخ لتسرد لنا حكاية هذه الأنثى- على لسان " أزاهير " البطلة أو الراوية ذاتها ..
في إطار بنية سردية رائعة وبلورة لفضاء الزمان و المكان ، تجمع فيه بين الميتاتاريخ والميثولوجيا ،تقدم شخصيات روايتها بتفاصيل سلوكها وملامح محيطها وتأثرها بما كان وسيكون ، وما تحلم به الأنثى و تسعى له في التحرر والانعتاق من هذا السجن النسويّ والسجّان الأزليّ ، الرجل الذي قيّد جسدها بتفكير عقيم ، قتل فيها الروح والطموح وحرمها الاستمتاع بنعمٍ وهبها الله لها .
_ أمثلة عن تلك المرأة التي حلمت بعالم مختلف ، ظنته فضاء الحرية والتغريد وتحقيق الأحلام ، فاصطدمت بواقع أكثر مرارة وبؤسا وإحباطاً .. لا فرق فيه سوى بالوجوه والمظاهر ومعالم الأمكنة والأزمنة المتتالية عليها جيلا بعد جيل .
__ نقرأ ..والبداية مع " أزاهير " التي تأخذنا عبر التاريخ إلى أحضان وطنها الذي غادرته إلى لندن وهي تحمله في أعماقها ، إلى عهد الحضارة السومرية لأول شاعرة رسمت معالم فكرها وزمنها بأشعارها ، " إنهيدوانا " ابنة الملك الآكدي سرجون ، و" إنانا " إلهة الحب والعشق الخالد .. تحمل كتابها المفضل " صلاة إنهيدوانا " إلى النهر وتحت ظل شجرة تقرأ عن الزواج المقدس وكيف فرضته ديانة " إنانا " .. تحاورها في خيالها ، تبوح بصمتٍ فتقول في ص26 :
"أتدرون لماذا برعت أناملي في طهو أزكى وأطيب الأكلات ؟؛؛ لأنني كنت أشكو للولائم قبل صنعها ، تحمّلتني صامتة أقلّبها بعذابي ، لتأكلوا ، وتستمتعوا ، وتفتخروا بما لديكم من امرأة شاملة ، أمّ، وكل شيء لكل شيء ، إلا أنا لاأحد لي غير ذاتي ، هي صديقتي الوحيدة ، حين كنتم صغاراً أدركتم بعضا من ألم، لكنه ليس كل الألم ، ليس كل الإلغاء لشخصيتي ، وصراعي لأعيدها رغم أنف من يريدني ظلاً له .
لم أبكِ أمام أحد ، لأنه سيُبكيني وقريبا ؛ لو رأى ضعفي ."
ص29 :" صديقتي الحبيبة إلى قلبي ، شاعرتي الأثيرة " إنهيدوانا " ، حين دخلت عوالمك في معبدك المقدس في أولى قراءاتي ، تيقّنت جيدا لماذا كل صلواتك كانت ل " إنانا " . لأنك تؤمني عن قناعة بأن المرأة إله الحياة ، لذا عشقت صلواتك وسط اندهاش الجميع وتقديسك ل " إنانا وأبه " ، لعل ثقتك تزعزعت بالآلهة الذكور وخاب ظنك ."
__ نقرأ عن
☆ " هينار " المرأة المضطهدة في بلدالثقافة والحضارة والديانات والمعتقدات، في الهند بلد "غاندي وأنديرة وطاغور " .. تروي قصة أختها النادلة في أحد البارات ، كيف تعرضت للاغتصاب فقُطع رأسها على يد والدها المنتقم لشرفه ولتكون عبرة لغيرها في القرية .
☆ "خضرة " امرأة يهودية من أصول صومالية ، تصل بريطانيا بعد معاناة من أبشع المعتقدات الدينية في بلادها ( ختان البنات ) لصيانة عفتهن وكرامة عوائلهن .
☆" سارة " المرأة المقهورة التي وصلت للانتحار ثلاث مرات بسبب زوجها ابن خالها الذي اعتبرها قطعة من ممتلكاته لاحس فيها ولاروح ، تصاب بالشلل النصفي وفقدان النطق إثر محاولتها الرابعة للانتحار .
☆" مهيرة " الباكستانية التي اغتيلت كرامتها فقط لأنها رفضت زواجا تقليديا فرضه الأهل وحُرمت من حبّها ، فساعدها أخوها الأصغر على الهروب واللجوء إلى بريطانيا .
☆" دلكش " المرأة البريطانية من أصول إيرانية ، سحلوا أمها من شعرها بعد اغتصابها جماعيا وقتل والدها وشاء القدر أن تصل مع أمها إلى لندن . ☆"Bella" فتاة صينية مراهقة ، أجبرت على الزواج من اقطاعي يقيم في لندن منذ خمسين عاما يفوقها سنا بكثير ، وبقيت عذراء نسيت الجسد والرغبة ومعنى الحياة .
☆"زبيدة " زوجة هارون الرشيد ، الشاعرة ، المثقفة ، الرزينة صاحبة الفصاحة والبلاغة ، التي طالما تمنت لو كانت من عامة الشعب لتتزوج بمن تحب وتعشق وتتخلص من قهر زوجها وأمه " خيزران " لها .
☆" ميلفا ماريك " زوجة " أنشتاين " التي عملت معه جنبا إلى جنب وجادت بأبحاثها وجهدها للوصول إلى قانون التأثير الكهرضوئي ، لينال وحده التكريم وتُذيل جائزة نوبل باسمه وحده ، وتعاني هي القهر والألم وأولاده اليتم وهو على قيد الحياة .
__ وهكذا تستمر الأحداث مع شخصيات أدبية ، سياسية ، تاريخية ، علمية ، اجتماعية وأخرى ، قرأت عنها الراوية أو التقتها في لندن أو تخيلتها موجودة .. منها مثلا ،غير ماذكر هنا ( بناظير بوتو ، تيريزا ماي رئيسة حكومة بريطانيا ، ديستويفسكي ، جبران خليل جبران ، موزارت ، آنا حمزاتوف شاعرة روسية ، يولا ناشطة كولومبية ، النحات لويس والش ، وغيرهم .
كذلك كان للمكان رمزه وانعكاسه على شخصيات الرواية واللحظات التي مرت بها ابتداء من المطبخ إلى غرفة النوم ، الأريكة ، الحديقة ، المطعم ، النهر وأماكن أخرى لها وقعها وأثرها ورمزيتها ، وقد صورت لنا من خلال تلك الأحداث حضارات وثقافات وموروثات مختلفة في بلدان مثل ( العراق ، الهند ، باكستان ، بريطانيا ، فرنسا ، أمريكا ، رومانيا ، إيران ، المغرب ......)
__ اتضح اسلوب الميتاسرد جليّاَ في الرواية إذ أن الراوية نقلت قصصا من الواقع وضمنتها في نصوصها ، وكانت أحيانا تأخذ دور الناقد وهي تحلل وتعلّق على سلوك شخصياتها ، أو ذاك الموروث الذي طغى على سلوكها ، وتركت الفضاء مفتوحا في أماكن كثيرة ، لتتيح للقارئ إعمال فكره وتوسيع خياله لفهم وإدراك عمق ومضمون الأفكار والوصول لمبتغاها .. وهذا ما كان في الجزء الأخير من الرواية مع سرّ الصندوق ومحتوياته ، والجدران التي رأتها النسوة جميعهن في ذات الحلم .
__ في الصلاة العاشرة " صلاة لنا " تقول أزاهير بعد أن التقت النسوة عند الجسر ، وبدأن بوصف ذات الحلم الذي حلمن به تلك الليلة ونفس الغرفة ذات الجدران الحديدية الثلاثة ، والجدار الزجاجي الأمامي ..كانت أزاهير توزع أوراق روايتها على النسوة بين العابرين ، وبعضها يطير ليغرق في النهر ، أما هي حملت الصفحة الأولى وراحت تلوّح بها كما تقول :
" رفعت ورقتي بروحٍ عارية ألوّح لها بها ، كان وجهها يتلألأ في الهواء ، عيناها تلجئان إليّ كما لجأت إليها في المرايا ، سمعتُ موسيقى قادمة من السماء ، انفصلت روحي كليّاً عنهن ، لاأسمع لأحد سواها ، كانت تدعوني إلى صوتها بين الأنغام ، وأنا ألوّح بالصفحة الأولى من العشر التي صلّينا بها كلّنا ...
لاشيء يمرُّ بي غير قلبها المورق في قلبي .
اقتربت مني حمامة ، اقتطفت الصفحة بمنقارها ، وطارت عاليا ، نظرتُ إليها ، تابعتُ تحليقها عاليا ، وهي تعلو ، تعلو ، ثم غابت في السماء .
كنت أردد مع صدى الموسيقى :
- إنها هي ، هي ، هي ...
أيقظتني" خضرة " بسؤالها :
من تقصدين ؟! روح " بربارة " .
قلت : لا ، لا ، إنها هي ، هي ...
__ نهاية تضع القارئ أمام نفسه باحثاً عن ردودٍ لأسئلة الحقيقة الكامنة في أعماقه ، عن علاقات وتفاعلات بشرية سُخّرت لترويض ذواتنا في مدارات ضيقة ، خانقة ..
ولم يكن الصندوق الذي وجدته أزاهير في غرفتها إلا نعشاً للحياة ، دُقّت مساميره بشظايا أجساد منثورة على أخاديد الظلم والقهر ، وسجناً لأرواح تتعالى صرخاتها في فضاء مظلم يغيب فيه الصدى .
تماما كتلك الغرفة ذات الجدران الحديدية الثلاثة التي تمثل سجن الجسد والجدار الزجاجي الأمامي ، نافذة القلب والروح التي تتنفس من خلاله وتنطلق لعالمها .. والمرايا الشاهد الوحيد عليها تعكس صلواتها وتراتيلها ، رغباتها وأحاسيسها عارية مجردة من كلّ مايُفرض عليها .
وكانت الصلاة العاشرة ،حلم مشترك ، أوراق مبعثرة ، و الورقة الأولى بيد أزاهير تلوح بها وروحها تحلّق عاليا لتعانق روح معشوقتها " إنهيدوانا " تحملها حمامة من وطنها ، من ذكرياتها ، من أحلامها ، من روحها التي رقصت على موسيقى تراتيلها وأشعارها .. منفصلة عن كلّ ماحولها لتعود لذاتها ، لوحدتها ، لصلاتها وطقوس حياتها . أما (هي) تلك التي رأتها أزاهير تعلو ليست إلا المرأة المنشودة ، المرأة الأنثى ، إلهة الحياة والحب والجمال والتحرر والإبداع .
================================
خاتمة ..
رواية " عشر صلوات للجسد " ، ليست مجرد سردٍ لأحداث وقعت أم لا ، ولا فلسفة مجردة لأفكار وحوارات ، أوتعريف بحضارات وثقافات شعوب مختلفة ، وليست خيالية تبحث عن شمّاعةٍ في عالم ضبابيّ تعلّق عليه طقوس شخصياتها ...
هي عالم من الإبداع والجمال ، عالم الأرواح الصاخبة والأجساد الموغلة في الأنوثة ، عالم المرأة الحاضرة بكل تفاصيلها ، والماضية كما روتها الحكايات الشعبية والأساطير ، وتلك المنشودة المتحررة من كل مافرض ويفرض عليها ، المتوازنة ، المتكاملة بحقوقها كما واجباتها .
باسمة العوام