المنظمة العالمية للإبداع من أجل السَّلام/ لندن

الروائي العربي واسيني الأعرج يكتب لـ “أثير”: الشَّرْقُ الحَضَارِي في مواجهة عولمة متوحشة

08-07-2023


178 

الروائي العربي واسيني الأعرج يكتب لـ “أثير”: الشَّرْقُ الحَضَارِي في مواجهة عولمة متوحشة


بقلم: الروائي العربي واسيني الأعرج

تعودنا على الكتابات الغربية، الفرنسية، الأنجلوساكسونية، الألمانية أو غيرها، التي تتحدث عن العالم العربي ونسعد باكتشاف أنفسنا في مرايا الآخر، وكثير ما تكون نظرته لنا من خلال مقاييسه الحضارية التي لا تمت بصلة للواقع الثقافي والاجتماعي المعيش. يختلف الأمر هذه المرة، فقد جاء كتاب الباحث الهندي، الأستاذ الجامعي الدكتور مجيب الرحمن “رؤى حضارية/ في العلاقات الهندية العربية ومواضيع أخرى ” ( دار النشر، مركزي ببليكيشانز 2023) الذي كتبه مباشرة باللغة العربية من موقع العارف للشرق الحضاري الواسع الذي ينتمي له العالم العربي ثقافيا وحضاريا. وحاول أن يتعمق في قضاياه الكبرى المرتبطة بسياق إنساني متحول باستمرار. فتناول سلسلة من القضايا العربية والإنسانية التي هي على تماس مع الواقع الثقافي في ديناميته وحركيته. يطرحها الدكتور مجيب بسلاسة كبيرة مقنعة وبدون تكلف يثقل النصوص التي سبق أن نشرها في الصحافة العربية (جريدة الرؤية تحديدا) واطلع عليها جمهور القراء العرب.
وامتد النقاش في الكتاب، من الهاجس السياسي، الحضاري الذي يمس التاريخ الهندي والعربي، مرورا بالهاجس الثقافي الذي يمس اللغة العربية وتاريخها وعلاقاتها مع الجمهور الهندي الذي كتب بها الكثير من نصوصه، والترجمة والأدب حيث قام بتحليل بع النصوص الروائية العربية، كل ذلك تحت مظلة إنسانية دافئة شكلت وتشكل اليوم الأسمنت الحقيقي الذي يجمع بين الشعوب في صراعها من أجل الحق والعدالة. لهذا أعطى الكتاب لنصوصه هذا البعد الإنساني الذي يخترق النصوص جميعها.

يضعنا الكاتب منذ اللحظة الأولى في حضرة العلاقات العربية الهندية وفي ضيافة الشاعر العالمي الكبير طاغور، الذي اختار حياة الزهد والمحبة البشرية والخروج من ضيق الأديان ليتسع بشعره نحو آفاق أوسع واضعا المحبة والتسامح في الواجهة إذ لا قيمة للإنسان دون ذلك، ودون نكران الذات وتسخير النفس في خذمة سعادة البشرية. مذكرا بشخصية غاندي العظيمة.
هذه الممارسة الثقافية السامية هي التي دفعت نوبل للآداب بمنحه جائزتها في سنة 1913 وكان أول شخصية شرقية تحوز على هذا الشرف العالمي الكبير، مما سمح لأفكار طاغور أن تنتقل من الدائرة الهندية إلى العالم. بشعره وأفكاره استطاع طاغور أن يضع على السكة الحقيقية، فكرة السلام البشرية خارج الصراعات الدينية والاثنية. الإنسان هو رهانه الأول. هذه الفكرة قام الدكتور مجيب بتطويرها في مقالة أخرى عندما تحدث عن غاندي الذي علم الإنسانية معنى السلام من خلال تجربة استثنائية عاشها وتقاسمها مع شعبه. كانت حياته التي ملأها بالرموز العظيمة، سلسلة متلاحقة من تجارب في الكفاح السلمي، والانتصار للخير، والنزاهة، والزهد، ومحاربة العنف بوصفه حلا من الحلول ضد الأعداء، والسلام والتسامح، ونبذ الكراهية، والعمل الجبار على تحقيق الوئام الطائفي بين المسلمين والهندوس في أصعب فترات التاريخ الهندي حيث كان الاقتتال شيئا يوميا فاقترح وسيطا إنسانيا أكثر عمقا لتحقيق سلام عميق. الأمر الذي ارتفع به عاليا ليصبح أيقونة للسلام والحق والعدل واللاعنف.
فقد أعطى الدكتور مجيب الرحمن للغة العربية مكانة طيبة في كتابه بوصفها الأداة التعبيرية التي تجمع بين الملايين. يكفي أنها مرتبطة بالنص القرآني الكريم. لم تعد اللغة مجرد وسيلة تعبيرية لكنها كيان أقوى وأسمنت يجمع مختلف الشعوب من أجل المحبة والخير. فمن خلالها تم التواصل الإنساني والإطلالة على حضارات أخرى منحت البشرية الكثير من الحب والسلام. فالعلاقة شرق- غرب بُنيت على هذا الفعل اللغوي بكل محمولاته التاريخية والثقافية. الجميل ف كتابة الدكتور مجيب هو أنها تتم وفق رؤية إنسانية ونقدية بدون مبالغة.
من خلال مقالته وكتابه تعرف القراء على الكثير من الشخصيات الهندية التي أحدثت تغيرات كثيرة في الأفق الإنساني لأفكارها ونقاشاتها وأدبها. فكرة الترجمة مهمة واحتلت مكانة جيدة في الكتاب الذي كان يمكن تنظيمه وفق فصلين كبيرين: فصل خاص بالأفكار العامة السياسية والثقافية، وفصل خاص باللغة والترجمة والأدب. فقد أرخ للترجمة العربية الهنديةـ بين العربية والأردية التي ترجع بداياتها إلى حوالي ثلاثة قرون خلت، معتمدا في ذلك على شواهد حقيقية. فقد تركزت في البداية على ترجمة أمهات الكتب العربية في فنون التفسير، والحديث، والسيرة النبوية، والفقه، وغيرها إلى اللغة الأردية، علما بأن القرآن الكريم حضي بترجمات متميزة ومزخرفة في الكثير من نماذجها القديمة والحديثة.
لم يخف على الكاتب إثارة بعض الصعوبات فيما بتعلق بالثقافة العربية لأسباب عديدة. العرب لا يسوقون، بشكل جيد، لثقافتهم مما يجعل وصولها لمختلف الأصقاع صعبا كثيرا. ويقدم الكاتب شهادة حية عن هذا الوضع في كتابه تبين طبيعة هذه الصعوبات التي كثيرا ما أتعبت محبي الثقافة العربية في الهند ويحتاج الأمر إلى إرادة كبيرة لتجاوز هذه المعضلات: “نحن الهنود من الأساتذة والأكاديميين والطلاب المهتمين باللغة العربية وآدابها في مختلف الجامعات الهندية، عانينا طويلا من العزلة وقلة التواصل مع المثقفين والمبدعين العرب، وكنا نحس بنقص كبير في اعتناء الجهات العربية الحكومية وغير الحكومية بدعم نشر الثقافة العربية في الهند، وتعذر على دارسي اللغة العربية وآدابها الوصول إلى المنشورات والدوريات في الشعر والقصة والمسرحية والنقد، بسبب قلة التفاعل مع المثقفين والمبدعين العرب، وأتذكر حين كنت طالبا في الماجستير أننا كنا نحصل على نسخ قديمة من جريدة الأهرام أو الشرق الأوسط ونحتفظ بها ككتاب مقدس.” يبين هذا الحب الكبير للثقافة العربية من طرف النخب الهندية وهو ما جعلهم يتجاوزون الصعوبات الكبيرة ويجعلون من الثقافة العربية منارة في الجامعات ولدى الطلبة الذي ينكبون اليوم لدراسة الأدب العربي وإنجاز الرسائل الجامعية.
على الرغم من أننا لمسنا من خلال تحليلات الدكتور مجيب الرحمن أن الأدب العربي في الهند كان يعاني من غياب فنّ القصة والرواية والمسرحية، رغم ريادة الهند في العلاقة مع اللغة العربية في وقت مبكر، والتعامل مع علوم الحديث والتفسير، والفقه، والصرف، والنحو العربي، بزمن طويل قبل غيرها من بقية الذين اهتموا بالثقافة العربية في آسيا. مرد ذلك يعود إلى كون اللغة العربية لم تكن لغة الحديث والحوار الشعبي والتعاملات اليومية في الهند، إلا أن ذلك لا يخفي مطلقا محبة اللغة العربية في الهند والعمل بها في الدوائر الترجمية المختصة. فقد ظل التواصل بين الثقافتين الهندية والعربية متواصلا من خلال العلاقات الشخصية والأسفار المتعددة.

في متابعاته الأسبوعية لم يفت الدكتور أن ينتبه لوباء الكورونا الذي اجتاح العالم بشكل مرهب. معرجا في الوقت على مرض آخر، مرض الأصوليات المتطرفة والهالكة للحياة والاستقرار. بالخصوص خطاب الرئيس الفرنسي ماكرون الذي، كما يرى الكاتب، سمح بالمس بالرسول من خلال جلب التلاميذ، باسم اللائكية في المدرسة، لدرجة أن أصبحت هذه الأخيرة عبارة عن أيديولوجيا مدمرة لأي تواؤم وطني. الأمر الذي تسبب في ذبح هذا المعلم الذي كان وراء عملية “الاعتداء” بوضع صور مهينة وعدائية للإسلام، تحت تصرف تلاميذ صغار، بحجة حرية التعبير، باعتبارها حقاً أساسياً للمجتمع الفرنسي العلماني، مع أنها غير متوافقة مع قيم التسامح والاختلاف والتعايش السلمي التي ينادي بها المجتمع الفرنسي باستمرار.
موجة الحقد والكراهية للإسلام صغرت بلدا كبيرا مثل فرنسا. غذت من جهتها التطرف والإرهاب، وعززت فكرة اللاأمن والخوف من المجتمعات الإسلامية.
عرف الدكتور مجيب الرحمان كيف يهوي كتابه من المشكلات التي تحكم البشرية اليوم من حروب مدمرة وأوبئة اتسعت حتى سرقت أرواح الملايين، بالحديث عن بعض الكتاب العالميين الذين غيروا وجه الخرائط الأدبية فخص لها مساحة نقاشية مهمة. يختار لذلك كاتبة عظيمة: توني موريسون التي نبهته إليها كتابات إدوارد سعيد، ولا سيما كتابه الفكري المعروف “الاستشراق” الذي لفت انتباهه إلى نصوص توني موريسون الروائية، فاطلع على نصوصها الأساسية منها رواية “نشيد سليمان”، وروايتها “محبوبة”، و”فردوس” و”حب”، قبل أن يستوعب تجربتها في اكتمالها الأدبي، ويلمس بعدها الإنساني في مجتمع تحكمه العنصرية.
بقي أن نقول إن هذا الكتاب الذي جمع فيه الكاتب مقالاته الكثيرة التي نشرها في جريدة “الرؤية” الإماراتية هو عبارة عن شهادة عن زمن يتحول بسرعة من حروب وأمراض وخلافات حضارية لكنه استطاع أن ينتصر فيه للخير والمعرفة والنبل والتسامح الحضاري بين مختلف الأمم والإلحاح على تسيد العقل في ظل عالم متأزم وصعب جدا. أمام عولمة متوحشة يحتاج الشرق الحضاري إلى الكثير من التبصر والذكاء لتفادي عصر شديد الأطماع الاستعمارية الجديدة.