القَرين
24-04-2023
234
القَرين
بقلم: الأديب هادي المياح
ليلاً، وفي وقت تَسلُل اللصوص، كانت السويعات هادئةً، لا يعكرها ضجيج أصوات أو حركة. نهضت فجأة من فراشي، نظرت حولي في محاولة التأكد من وجود حلم أو رواسب له باقية في ذهني. كان ذهني ساكنًا تمامًا، فتأكدت بأن رأسي كان فارغاً، لا يحمل غير كلمات أبي الاخيرة. وتهيأت للقيام بالمهمة التي وكلت نفسي بها.. شيء ما يحصل لي لا أعرف ما هو. كنت شبه متيقظ.
ثم رأيت نفسي أزحف نحو السلّم الخشبي النازل ببطء، ببطء جداً مستفيدًا من الوضع الذي اخترته. حتى صرت ابتعد عن فراشي الذي تحيط به السماء من كل الجوانب. كانت عملية الهبوط ليلاً من ارتفاع ثلاثة أمتار، أشبه بعملية اختراق الغلاف الجوي بمركبةٍ ضالّة. كنت أقوم بها وأنا في مكاني المحصن بالهدوء، ثم كأني سمعت أحدهم يقول: ليذهب علّه يستطيع ذلك! وإن كنت لم أُميّز القائل، إلا أن ذلك لم يشعرني بالخوف. كنت أفخر بنفسي وأنا ألُبّي طلب أبي الَّذي أمرنا به في مساء سابق:
"عليكم بجلب الحطب من المنطقة المحاذية للنهر، واحذروا جيدًا من أفاعي الطريق." منذ سمعت كلماته، تسلمتُ الأمر على محمل الجد وخزنته في ذاكرتي من دون اخوتي. ولم لا وأنا الأكبر من بينهم. كنتُ أخشى أن يسبقني أحد منهم إلى هناك. ويُضعف موقفي أمام العائلة، فقد كنت قويًا ولم يمرض لي جسد طوال حياتي السابقة.
ثم وجدت نفسي أن عليّ أن أقطع مسافةً لا تقلّ عن مئة متر أو أكثر إلى هناك. كنت أحذر وأنا أنقّل أقدامي على تراقي الخشب خشية الوقوع. وحالما وضعت قدمي على آخر مرقاة ولامست الأرض، شعرتُ برجفة قوية فتوقّفت! ورحتُ أتلمّس جسدي كمن صدمته سيارة أثناء عبوره الشارع.
واصلتُ السير ببطء مشوب بالحذر. واجهتْ أقدامي أرضٌ صلبة، أشعرتني بمواجهة أشباح أو غمامات سوداء راحت تتكوّر أمامي. ثمة أصوات سمعتها تنادي باسمي من بعيد. لكنني لم أخف، كنت أدرك طبيعة تلك الأصوات وما تعنيه مقابل هذه المهمة والتحدي.
صاحبني شعور بالثقة وأنا أنقل خطواتي و أحث الخطى، متحسسًا طريقي بشكل جيد. سلكتُ طريقًا نيسميًا تحفّه الأشواك من الجانبين. قطعتُ منه طولاً مسافة سياج مزرعة الجيران الممتدة حتى النّهر. مررتُ بكلبِهم الأسود كالحارس عندَ نهايته البعيدة القريبة من النهر. كانت عيناه تلمعان في الظلام، وأطرافه تتحرك حركات لا إرادية. ويبدو لي من خلال اصواته، كأنه في لاوعيه، وربما أنه يحلم، هذا الكلب لا يختلف كثيرا عنا في احلامه.
عندما اقتربت من حافة النّهر، غمرني شعور مبهم. ورحت أتقصى من يتابع حركتي في الظلام ويجبرني على الاندفاع أكثر إلى أمام حيث المجهول يتسع للكثير. ومن مكاني، ليس من السهل تحديد مساراته.
ثم فجأة هناك مثل شبح،وجدته.. يقف في المكان نفسه الّذي أنوي جلب حزمة الحطب منه. ركزت به جيدًا عسى أن أظفر بحقيقته. ثم صرتُ أهمّ بجرأة في الوصول إليه. غير مكترث بشيء، لا باْلكلب ولا باللصوص. حين دنوت منه، رأيته واقفًا كأنّه ينتظرني. كان عليّ في تلك اللحظات، أنْ أُميّزه جيدًا، فقد ساورتني الشّكوك بظهوره المريب، كان يماثلني بكل شيء، بطول ذراعيه، وبحجم حزمة الحطب التي يحملها. قلت مع نفسي:
"هل هذا أنا حقا"
رفعتُ يدي اليمنى فرفع هو اليمنى، رفعتُ اليسرى، ففعلَ ذلك أيضا. دنوت منه لأتبيّن ملامحَ وجهه، دنا منّي هو الآخر. كان اقترابنا من بعض خطوة بخطوة، قد استمرّ للحظات. تناولتُ حزمة الحطب التي تناثرت أعوادها على امتداد الطريق، رغم حرصي وما بذلته من تفانٍ لإيصالها. عندما وجدتُ نفسي هناك، وسط الظلام، اضطربت ولازمني إحساس بأنني منقسم على نفسي وقراراتي، وسأواجه الكثير من أجل الوصول، لكنّي في الوقت نفسه، كنت أدرك بأنني لا بدّ أن أعود أخيرًا. كان هذا الإحساس قد تولد بداخلي منذ أن رأيته أول مرّة، وأنا أحمل بذراعيَّ حزمة الحطب الجّاف الذي جمعته على عجل.
أثناء عودتي، وبالقرب من كلب الجيران النائم، غاب الآخر عنّي، ففقدت بعض شجاعتي، وشعرت برجفة شديدة مشابهة سرت في انحاء جسمي، وأخذتني بعيدًا. ورأيت نفسي أهرْول وأهرْول.. أبحثُ عن بداية السّلم الخشبي الصاعد. لأجد الآخر قد سبقني إلى هناك، واندس في السرير.