المنظمة العالمية للإبداع من أجل السَّلام/ لندن

المتفرّج

16-10-2023


219 

المتفرّج

بقلم: الدكتورة وفاء عبدالرزاق

 

* هو المُنتظِرُ والمُنتظَرُ، يُصِرُّ على أسنانِه كُلَّما تشابكتِ الأشياءُ، ليعرِفَ أيّهم هو.

يضعُ قُبَّعتَهُ على الطاوِلةِ، يذهب إلى مرآتِه، ويَصدحُ بالغِناءِ، عِطرٌ غريبٌ يمرُّ عليه، ولا أحدَ غيرَه. يرفع رأسَه عالياً، يجد رأسه مشنوقاً. يهتمُّ لفراغاتٍ بين رقبتِه وحبلِ المَشنقةِ، يُشعِل مِصباح الغُرفةِ، فيُصفّق الجمهور.

لن يَسمعَ أحداً ما يقول له أيّ شَيءٍ، لن يكترِث به أحدٌ إطلاقاً.. الجالسون على الكراسي يُشبهونُه، لا بل كُلُّهم هو.
يرتدِي بِنطالاً بُنيّاً، وقميصاً أبيضَ، يَسمعُ أحاديثَ عنِ الذينَ ماتوا يومَ أمسِ، والذين قبلَهُ، وحقَّقوا برسمِ الشَّكل الذي سيليهم، رسموا جميعاً وجهَهُ.

اختلف المُخرِج عن المَشهدِ الأوَّلِ، واختلف المُمثلون وتضاءلتِ الإنارة قليلاً مِن زوايا المسرحِ.

النَصُّ المكتوبُ، بعد خمس سنواتٍ مِن النصِّ الأوَّل، كان بِخط اليد أيضاً.

دخلَ مُمثِّلٌ وكأنَّه يُكلّمُ أحداً قُربَهُ بينما لا أحدَ:

- صدِّقنِي، هو لا يقدِر أن يطهو لحمَ جارِه، عِلماً بأنَّ القِدر على النّار، ولا بُدَّ أنْ تُصدِّقَ بأنَّهُ الطّاهِي والمطهو، والتتبيلة والملحُ.

خرجَ المُمثّلُ حين دخلَ آخرٌ بنِفسِ الشَّكلِ، الطُّولِ، لونُ البشرةِ، الشَّعرِ.

مِن حُسن الحظِّ أنَّهُ يحمِلُ في جيبِهِ مِرآتَه القديمةَ، نظر إلى المُمثِّلِ الآخر، وجد ما أخافَهُ. وجهَه، لونَه، طولَه، وتجاعيدَ الوجهِ.

كيف وقد استهلك المرآةَ حتَّى باتتْ كوجهِ عجوزٍ!

لا بدّ أنَّها شاختْ فِعلاً، لذلك تعكسه هُناك وتعكِسهم هُنا.

أمسكَ حقيبتَه، جوازَ سفرِه وغادرَ، لا فرقَ طالما هو الظِلُّ في كُلِّ مكانٍ، لِذا دخل مِن الباب الثاني ودفع السِّتارة بقوةٍ.
الليل عادِيٌّ، وطويل، مِن السّادسةِ مساءً حتَّى الثّانيةَ عشرةَ، ومِن الثانيةَ عشرةَ حتَّى السّادسةِ صباحاً، هذه دورتُه اليوميَّة، إذ لا صباح يلي ذلك. لا فراغ بين السّاعات، اختلافاً لحبل المشنقةِ.

رمَى حقيبتَه ودخل إلى المطبخ، القهوة منثورةٌ على الحوائط كُلّها، لونُ المطبخ بأوانيهِ كُلّها لونٌ بُنيٌّ محروقٌ.. هو يحبّ القهوة المحروقة، فأعطته الحياةُ ما أحَبَّ.

أخذَ ملزمةَ النصِّ المكتوبِ ليحفظَ دورَه الجديد، فالحقيبةُ تُشير إلى مُغادرتِه المكان ودخوله لمكانٍ آخرَ، إنَّما النصُّ، محذوفةٌ مِنه كُلُّ الأمكنةِ.

بعد السَّطر الأوَّلِ خَشِيَ أنْ يسأل المُمثِّلَ: مَن أنتَ؟ كَي لا تكون الإجابةُ: أنتَ.

نظرَ إلى عينَي المُمثِّلِ، اقتربَ مِن أنفاسِه، تذكَّرَ أنَّهُ يُحبُّ الهالَ، حين اشتمَّ أنفاسَ الهالِ مِن المُمثِّلِ.

لم يجد تقليداً أعمَى، بل أكثرَ مِنَ الأعمَى، لا يدرِي؛ هل زوجتُه حين اشترتْ له هذا القميصَ والبِنطالَ، اشترتْ آخرَ لمُمثِّلِ النَّصِّ الجديدِ؟

الكاتب مجهول الهويةِ، إذاً كيف عرِفَ الكاتبُ بلون قميصِه، حتَّى الزِّرّ المَقطوعِ؟

وكيف عرف هذا الظلام المُتواصل في ليلِه؟ لهُ ليلهُ الخاصُّ مِن السّادسةِ مساءً إلى الثانية عشرة، ومِن الثانية عشرة حتَّى السّادسةِ صباحاً هكذا دورتُه هو.

الليلُ حرٌّ، حين اختاره لنَصبِ فخّ مُظلِمٍ لهُ، لأنَّهُ بِكُلِّ بساطةٍ يُحبُّ القهوةَ المحروقةَ.

لكِنَّ الكاتِبَ ليس حُراً، سرقَ شكلَه وهَيْأتَه.
عشر سنواتٍ مرَّتْ، بعد التي قبلها، وهو يدور، بين المُخرج، والكاتِب والمسرحِ والليلِ.

ارتدَى قُبَّعةً بيضاءَ بعد أنْ أشعل شمعةً صغيرةً، نظر إلى حائطِ المسرحِ الخَلفيِّ، فهالَهُ منظرُ ظِلّهِ الذي اتَّسع حتَّى ملأ الحائط كُلَّه، ماسِكاً قُبَّعةً بيضاءَ مُرتشِفاً قهوةً مُرَّةً.

أهمل الأشياء كُلَّها حين فُتِحتِ السِّتارةُ، سقط فنجان القهوة وهويرفع قبعته. فقد تحوَّلَ كُلُّ شيءٍ، عِلماً بأنَّهُ لم يتحوَّل، لكنَّه استمَعَ لصوت التَّصفيقِ القادمِ مِن مُتفرِّجٍ في آخرِ القاعةِ.

مُنذُ عشرِينَ سنةٍ وهو ذاتُه في الكُرسيِّ ذاتِه يُصفِّقُ له بحرارةٍ.

رفع المُتفرِّجُ قُبَّعتَهُ البيضاءَ فسقط فِنجانُ القهوةِ المُرَّةِ على الأرضِ.