قراءات في الحرب الناعمة
21-08-2023
319
قراءات في الحرب الناعمة
ح / ١
أولاً- المفهوم والفرق بين الحرب النفسية
و الحرب الناعمة و الغزو الثقافي ؟!
١- الحرب النفسية والتعريف :
الحرب النفسية ( أو الحرب السيكولوجية ، أو الجوانب الأساسية للعمليات النفسية الحديثة ، أو علميات دعم المعلومات العسكرية ، أو الحرب السياسية ، أو « القلوب والعقول »، أو البروباغندا ) مصطلح « يشير إلى أي فعل يمارَس وفق أساليب نفسية لإستثارة رد فعل نفسي مخطَّط في الآخرين ». تُستعمَل فيها أساليب عديدة ، وتَستهدف التأثير في الأهداف من نُظم قِيَمية أو عقائدية أو مشاعر أو دوافع أو منطق أو سلوكات . تُستعمل لإنتزاع اعترافات أو تعزيز مواقف وسلوكيات تناسب أغراض مَن يشنّها ، وأحيانًا ما يُجمع بينها وبين العمليات السوداء أو الرايات المزيفة . وتُستعمل أيضًا في إحباط الأعداء ، بتكتيكات تستهدف حطّ معنويات قواتهم .
وأيضاً تعرف الحرب النفسية هي إستخدام مخطط من جانب دولة أو مجموعة من الدول في وقت الحرب أو السلام لإجراءات إعلامية بقصد التأثير في أراء وعواطف ومواقف وسلوك جماعات اجنبية معادية أو محايدة أو صديقة بطريقة تساعد على تحقيق سياسة وأهداف الدولة أو الدول المستخدمة . أنها الحرب الباردة أي حرب أفكار تهدف للحصول على عقول الرجال وإذلال إرادتهم هي حرب أيديولوجية عقائدية وهي حرب الأعصاب وحرب السياسة وحرب الدعاية وحرب الكلمات والاشاعات .
والحرب النفسية هي أستخدام علم النفس بصفة عامة والعسكري بصفة خاصة لإحراز النصر وهي من موضوعات علم النفس الاجتماعي وعلم النفس العسكري .
بينما تعرّفها وزارة الدفاع الأمريكية البنتاغون بأنها إستخدام مخطط من جانب دولة أو مجموعة من الدول للدعاية وغيرها من الإجراءات الإعلامية التي تستهدف جماعات معادية أو محايدة أو صديقة بغية التأثير على آرائها و إتجاهاتها وسلوكها بطريقة تساعد الدول المستخدمة لهذا المخطط على تحقيق سياساتها وأهدافها ومصالحها ، ويمكن القول كتعريف إجرائي بأنها حملة شاملة تُستعمل فيها كل الأدوات المستطاعة وكل الأجهزة للتأثير في عقول جماعة محددة بهدف تهديم قناعات معينة وإحلال أخرى في مكانها تتماشى مع مصالح الطرف الذي يشن الحملة .
وحقيقة فقد عُرفت الحرب النفسية خلال التاريخ البشري منذ أقدم العصور، ومورست بشكل بدائي بادئ الأمر، فقد نُقل إلينا أنّ بعض قبائل الازتيك في أمريكا الوسطى بدولة المكسيك عندما يجتاحهم عدو يقومون باصدار أصوات مخيفة جداً عن طريق جماجم بشرية ، فيجعلون ثقبا في مؤخر الجمجمة وينفخون فيها الهواء بقوة ، ليصدر صوتاً يسبب الذعر في صدور الأعداء ، وقدّر الخبراء الذين عاينوا تلك الصافرة التي هي عبارة عن جمجمة إنسان بأنّ الصوت الذي تصدره أقوى مئة مرة من صوت إنسان يصرخ ، مما يضطر الغزاة في غالب الأحيان إلى التراجع والانسحاب اعتقادا منهم أنّ هذه الأصوات المرعبة تصدر من قبل أرواح شريرة ، وأنّها ستهلكهم اذا ما تجرؤوا واقتربوا منها ، وهذا نوع من أنواع الحرب النفسية تحت ( مسمى التخويف ) ، وقريب من ذلك ما قام به ملك الفرس "قمبيز" عندما تصدّى للجيش المصري وهزمهم بكل سهولة ، حيث أمر برسم أشكال لقطط على دروع جنوده ووضعهم في الصف الأول ، وحينما تقدّم الجيش المصري بقيادة "بسماتيك الثالث" رأوا تلك القطط مرسومة على دروع الجنود فلم يتمكنوا من الهجوم خوفا من نذير الشؤم الذي قد يصيبهم إذا ما اعتدوا على تلك الرموز المقدسة عندهم ، فقد كانت لها مكانة عظيمة كما أنها محلّ إجلال وهيبة بالنسبة لهم ، ولا تزال بعض الطرق تستعمل حتى يومنا مثل هذه للتخويف ونشر الرعب والهلع وإن كان في زمننا الراهن أضحت أكثر تطوراً وتعقيداً وأقوى تأثيراً في النفوس .
أما الفرق بين الحرب النفسية والعمليات النفسية
أن العمليات النفسية توجه إلى الدول والجماعات ( معادية – صديقة – محايدة – حليفة ) ، بينما توجه الحرب النفسية إلى أفراد وجماعات الدول المعادية فقط .
٢- ماهية الحرب الناعمة أو القوة الناعمة ؟
يعتبر مصطلح الحرب الناعمة اشتقاق من كلمة القوة الناعمة كما روج لها المنظر الأول لهذه القوة البروفيسور جوزيف ناي نائب وزير الدفاع الأمريكي السابق ومدير مجلس المخابرات الوطني الأمريكي ، وعميد كلية الدراسات الحكومية في جامعة هارفارد ، وهو أحد أهم المخططين الإستراتيجيين الأمريكيين .
وقد ظهر هذا المصطلح لنقل الحرب الاستعمارية المباشرة على الأرض لساحة قتال أخرى غير الساحة التقليدية التي يواجه فيها الإستعمار العسكري المباشر مقاومة شرسة من أصحاب الحق .
فقد درس المفكرين الإستراتيجيين للفكر الإستعماري أسباب الهزيمة المذلة التي منيت به الجيوش الإستعمارية في أكثر من مكان ، ومع مزيد من التدقيق والدراسة خلصوا إلى أن ميدان الحرب التقليدي هو ميدان خسارة لهم بالرغم من القوة العسكرية الكبيرة التي تمتلكها جيوشهم .
القوة الناعمة ( Soft power ) ، هو مفهوم صاغه جوزيف ناي من جامعة هارفارد لوصف القدرة على الجذب والضم دون الإكراه أو استخدام القوة كوسيلة للإقناع . في الآونة الأخيرة ، تم إستخدام المصطلح للتأثير على الرأي الاجتماعي والعام وتغييره من خلال قنوات أقل شفافية نسبياً والضغط من خلال المنظمات السياسية وغير السياسية . إذ يقول جوزيف ناي أنه مع القوة الناعمة « أفضل الدعايات ليست دعاية » ، موضحاً أنه وفي عصر المعلومات ، تعد « المصداقية أندر الموارد ».
وفي كتاب يوضح فيه جوزيف ناي مصطلح القوة الناعمة
صاغ جوزيف ناي هذا المصطلح في كتابه الصادر عام 1990 بعنوان « مقدرة القيادة الطبيعة المتغيرة للقوة الأميركية » . كما قام بتطوير المفهوم في كتابه الصادر عام 2004 بعنوان « القوة الناعمة : وسائل النجاح في السياسة الدولية » ، يستخدم المصطلح حالياً على نطاق واسع في الشؤون الدولية من قبل المحللين والسياسيين .
وعلى سبيل المثال ، تحدث الأمين العام للحزب الشيوعي الصيني هو جينتاو عام 2007 أن الصين بحاجة إلى زيادة قوتها الناعمة . وتحدث وزيرالدفاع الأميركي روبرت غيتس عن الحاجة إلى تعزيز القوة الناعمة الأمريكية عن طريق « زيادة الإنفاق على الأدوات المدنية من الأمن القومي بالدبلوماسية ، والاتصالات الاستراتيجية ، وتقديم المساعدة الأجنبية ، وإعادة الإعمار والتنمية الاقتصادية ».
وفقاً لمسح مونوكل للقوة الناعمة عام 2014 ، تتبوأ الولايات المتحدة المركز الأول تليها ألمانيا ثم المملكة المتحدة واليابان وفرنسا وسويسرا وأستراليا والسويد والدنمارك وكندا لأستخدامها معنى المصطلح هذا والذي
يعني بالقوة الناعمة أن يكون للدولة قوة روحية ومعنوية من خلال ما تجسده من أفكار ومبادئ وأخلاق ومن خلال الدعم في مجالات حقوق الإنسان والبنية التحتية والثقافة والفن ، مما يؤدي بالآخرين إلى احترام هذا الأسلوب والإعجاب به ثم اتباع مصادره .
كثير ما يتردد مفهوم القوة الناعمة في العلاقات الدولية ، وقد اكتسب هذا المفهوم رواجاً كبيراً في البحوث العلمية أو في سياقات الدبلوماسية الدولية أو الخطاب العالمي . ما هو هذا المفهوم وما هي آثاره على العلاقات بين الأمم ؟
بالنسبة للمفهوم فإن جوزف ناي ، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفارد ومؤلف هذا المفهوم ، يقول إن القوة الناعمة هي القدرة على جعل الناس أو الدول ترغب فيما أنت راغب فيه ، وأن لا تستخدم القسرية أو الإغراء لجعلهم يتبعوك ، أي أن القوة الناعمة هي القدرة على الاعتماد على قوة الجذب والإقناع بدلا من إجبار الدول على اتباع سياسات معينة .
وأهم وسيلة لتحقيق أهداف الطرف الأول عبر سبيل القوة الناعمة هي بتشكيل أولويات وأفضليات الطرف الآخر بحيث تتماهى رغباته مع رغبات الطرف الأول ، ويتحقق ذلك بسبب ما يمثله هذا الطرف من نجاح أو ما يمثله من نموذج يحتذى به وإذا كانت مصادر القوة الصلبة هي القوة العسكرية أو القوة الاقتصادية أو الإعلامية ، فما هي مصادر القوة الناعمة .
هناك مصادر متعددة لهذه القوة ، المصدر الأول لقوة الدولة الناعمة هي ثقافتها ومورثها الحضاري ، فكلما كان هذا العامل جاذباً للاهتمام سواء كان في تقاليده الشعبية أو ثقافته العليا كالأدب والشعر كلما زاد قوة الدولة الناعمة .
والمصدرالآخر هوة جاذبية المؤسسات والسياسات التي تتبعها وقيمها بشكل عام ، شرعية سياستها الخارجية تضفي قوة ناعمة للدولة ، الأداء العالي لأية دولة سواء كان ذلك في المجال الاقتصادي أو التكنولوجي يعزز من قوتها الناعمة .
على سبيل المثال فإن الرئيس دونالد ترامب قوض القوة الناعمة للولايات المتحدة بمنع مواطني سبع دول غالبيتهم من المسلمين مما حدا باتهامه بالعنصرية ضد جنسيات معينة أو دين بحد ذاته ، وقد تظاهر كثير من الناس في الولايات المتحدة والعالم ضد تشريع الرئيس الأميركي مما خفض شعبية أميركا في أعين العالم ، ولكن عندما أوقف القاضي الفيدرالي العمل بأوامر الرئيس و امتثلت السلطات لحكم القضاء فإن ذلك يعزز من سمعة الولايات المتحدة كدولة قانون ويضيف إلى رصيد قوتها الناعمة .
ولكن هناك خلط كبير بين مفهوم القوة الناعمة والوسائل الأخرى والتي لا تقل عنها أهمية ، ويحسب كثير من المحللين أن القوة غير المهلكة أو القاتلة بأنها قوة ناعمة ، فعلى سبيل المثال يرى البعض أن القوة الإعلامية أو المعلوماتية هي قوة ناعمة تؤثر على سياسات الخصم ، ولكن الإعلام قد يكون قوة قسر في حالات الشائعات المغرضة أو الدعاية المقوضة .
٣- مفهوم الغزو الثقافي ؟
يُشير مفهوم الغزو الثقافي ( Cultural Invasion) إلى الجهود والممارسات التي يبذلها مجتمع مهيمن سياسياً أو إقتصادياً لفرض جوانب مختلفة من ثقافته الخاصة على مجتمع آخر غير مهيمن ؛ مثل العادات والتقاليد ، والدين ، واللغة ، والأعراف الاجتماعية ، والأخلاقية ، والجوانب الأخرى للأنظمة الإقتصادية والسياسية التي تُشكل المجتمع المهيمن .
يُعد الغزو الثقافي أحد أشكال الإمبريالية ( Imperialism ) ؛ حيث أنّ الدولة المهيمنة تُوسّع بقوة سلطة ثقافة مجتمعها على الشعوب الأخرى بتحويل أو استبدال جوانب ثقافة المجتمع غير المهيمن باستخدام القوة العسكرية ، والقانون ، والتعليم ، وغيرها .
كما يُعد الغزو الثقافي أحد أهم الأدوات الأساسية للاستعمار؛ إذ يُمارس المُستعمِرين الغزو الثقافي بدافع إيمانهم بفوقية وأفضلية ثقافتهم ، وبحجة تطهير المُستعمَرين من عاداتهم وأعرافهم غير المتحضرة بزعمهم ، كما أنّ الغزو الثقافي من أفضل طرق التقليل من مقاومة المُستعمَرين بالقضاء قدر الإمكان على كل آثار ثقافتهم وكل ما يُعزز من مظاهر وحدتهم .
الغزو الثقافي ومخاطر مسخ الهوية ؟!
أفرزت ظاهرة العولمة في ظل الإنفتاح الكبير الذي أتاحتْه وسائلُها للتواصل بين الثقافات والشعوب - بيئةً من الهواجس المريبة في بلدان العالم الثالث ، عندما بدأت هذه البلدان تتلمس تداعيات العولمة السلبية على مجمل مَشاهِدِ الحياة الداخلية فيها بشكل مباشر؛ حيث لاحظت مخاطر التداخل الحضاري ، وأدركت سلبيات فرض ثقافة الآخر بالإقحام ، عبر تقنيات الاتصال الرقمي الحديثة ، والفضاء الإعلامي المفتوح في كل الاتجاهات بلا قيود ، بما يسببه هذا المنحى المتعمد من تشويهٍ لتصورات الشعوب ، وتسفيه لموروثها الحضاري ، من خلال أساليب تزيين الثقافة الوافدة للجيل ، وتحبيب تَبَنِّيها لهم ، وما يعنيه هذا التحدي من مسخ للخصوصيات الوطنية .
لذلك باتت بواعث الغزو الثقافي الأجنبي ودوافعه واضحةً تمامًا لأي بلد من بلدان العالم الثالث ، بما فيها الشرق الإسلامي ، باعتبارها لا تعكس مجرد التفوق التقني ، والعلمي ، والإقتصادي للغرب ، وحسْب ، وإنما تستبطن مسخ الهُويات الوطنية و المس بالقيم الدينية ، والتقاليد التراثية ، لا سيما وأن الغزو الثقافي يتميز - كما هو معروف - بالشمولية ، وبالتالي فهو لا يقف عند حد ، ولا يكتفي بمجال بعينه .
وتَكْمُن خطورة الغزو الثقافي في كونه يستهدف مسخ الثقافات المحلية ، بما هي الصورة المعنوية للأمة بكل خصائصها الفكرية ، وتصوراتها العَقَدِية ، وسلوكياتها الاجتماعية ، وموروثها الحضاري ، وفرض كل ما هو دخيل عليها بالأختراق ، وتحسين التكيف معه لهم ، بقصد إعدادهم لتَقَبُّله كبديل عصري ، تتطلبه ضرورات الحياة والحداثة العصرية الجديدة .
ولا شك أن التخلف الحضاري ، والتدهور الثقافي ، اللذين تعاني منهما البلدان العربية والإسلامية - شجعا ظاهرة الأنبهار المتهافت بما أبدعتْه المدنيةُ الغربية من مبتكرات علمية ، وما حققته من منجزات تقنية هائلة ، وما ترتب عليها من رفاهية اقتصادية ، وتحسن في المستوى الصحي والمعاشي ، الأمر الذي سهَّلَ للغزو الثقافي لمجتمعاتنا مهمةَ التشكيك في قدراتها الذاتية الكامنة على النهوض ، وبناء حضارتها العصرية ، وشجع النخب المحلية فيها على الجري وراء الغرب ، وتقليده بشكل أعمى ، بإستعارة نظم الحياة عندهم ، واستنساخ نمط سلوكياتهم ، حتى ولو لم تكن متوافقة مع خصوصيات تلك البلدان .
وإذا كان الإستشراق من بين أخطر أشكال الغزو الثقافي الذي تعرضت له الأمة العربية والإسلامية بالذات ، بما شكله من تحدٍّ واضح للمعرفة الإسلامية ، بهدف قتل روح الأمة من خلال الإساءة إلى الإسلام ، والتشكيك بقدسية نصوصه ، ووصمه بالتخلف ، فلا شك أن وسائل الغزو الثقافي في التربية والتعليم ، من خلال إنشاء المدارس والجامعات الأجنبية في الوطن العربي والإسلامي ، التي تعتمد التدريس باللغات الأجنبية ، وإقصاء اللغة العربية من الاستخدام بقصد صياغة الأجيال كما يريدون ، لم تكن أقل منه خطرًا في التأثير إن لم تَفُقْهُ .
على أن الغزو الثقافي من خلال الفضاء الإعلامي المفتوح في كل الاتجاهات ، هو من أشد أساليب الأختراق خطرًا من خلال ما يتيحه من إمكانيات تقنية في بث القيم والسلوكيات الغربية ، في برامج مُعَدَّة بعناية فائقة ، لكي تحظى بتأثير قوي في الرأي العام في تلك البلدانى؛ لسهولة وصولها إلى كل بيت ، وما يعنيه هذا النهج الخطير منعبث بقيم الجيل .
وفي ضوء ما تقدم ، فإن الأمر يتطلب الانتباه الدائم إلى مخاطر العولمة ، وفضح أساليب التغريب الغزو الثقافي ، والعمل على حماية الأمة من مخاطره ، من خلال ترسيخ ثوابت الخصوصيات المحلية ، ومحاربة محاولات طمس معالمها بالمسخ ؛ حفاظاً على الهوية ، وتلافياً للتفريط في مقومات الوجود ، بحيث يأتي هذا النهج في مقدمة الأولويات الوطنية ، بمغادرة نهج التبعية من دون تردد ، وأعتماد نموذج الطريق المستقل للتنمية ، بالشكل الذي يُقَلص من الفجوة القائمة بين الغرب والبلدان النامية على نحو ملموس ، ويشجع المعنيين بالأمر في البلدان النامية على تجاوز هواجس التَّهَيُّب من الإنخراط في ثورة الإتصال والمعلوماتية ؛ خوفًا من تداعياتها المحتملة على الهُوية الوطنية .
كما أن الغزو الثقافي لا يقل خطورة عن الغزو العسكري ، بل يمكن أن يكون أشد خطورة منه ؛ حيث يمكن التخلص من الغزو العسكري بالحروب والمعارك وطرد العدو من الأراضي المحتلة ، بينما الغزو الثقافي يسيطر على عقول الإنسان فيجعله يكتسب ثقافات جديدة كالثقافة الغربية والتي تبتعد كل البعد عن ثقافة الدين الإسلامي وأوامر الإسلام التي وصانا الله عز وجل ورسوله بها .
وأن مفهوم الغزو الثقافي هو الهجوم على أسس وثقافات أمم من أجل طمسها والسيطرة عليها ونشر المعتقدات والثقافات الأخرى ، وغالبًا يتم ممارسة هذا النوع من الغزوات على الدول النامية ، ومن مفاهيم الغزو الثقافي هي :
الإستقطاب والهيمنة :
ظهر هذا النوع من المفاهيم بعد انقسام العالم إلى نصفينى ، النصف الأول كان تابعًا للقطب الأمريكي وما يدور حوله ، والنصف الثاني كان تابعًا للقطب السوفيتي وما يدور حوله ، وحدث هذا بعد الحرب العالمية الثانية ، حيث أصبحت الحروب تأخذ شكلًا آخر مختلف عن المعارك بالأسلحة ، وهي الحروب الباردة والسلاح المستخدم في هذه الحرب هو الغزو الثقافي والفكري . وأستطاعت الولايات المتحدة الأمريكية أن تسيطر على جميع الأطراف وتنهي جميع الأقطاب وأصبحت المسيطر الأول على العالم بالتقنيات المختلفة والمعلوماتية والعلم وغيرها من الأسلحة التي وفرت لها الثروة والمعرفة .
يمكن وصف الغزو الثقافي على أنه تحديد القيم والعادات والتقاليد التي تميز أمة ما من أجل فرضها على الشعوب الأخرى التي يرغبون في السيطرة عليها ، وتنفيذ برامجهم السياسية والإجتماعية والأقتصادية . الغزو الثقافي ينبغي اعتباره تعديًا على الهوية الثقافية لأمة ما واستخفافًا بتراثها وثقافتها وتاريخها .علاوة على ذلك يؤدي الغزو الثقافي إلى الدفع نحو التجانس الثقافي في العالم ، مما يمكن أن يؤدي إلى تشكيل مجالس مسحوقة من الثقافات والمجتمعات . لهذا يجب الإهتمام بالحفاظ على الهوية الثقافية لأمتنا والحماية من أية محاولات الغزو الثقافي .
أهداف الغزو الثقافي :
إن مايهدف إليه الغزو الثقافي هو السيطرة على المجتمعات الإستقبالية وتغيير هويتهم وثقافتهم عن طريق نشر الأفكار الخاطئة وتحريف الحقائق . ويوجه الغزو الثقافي جهوده نحو تقويض قيم وأخلاقيات الثقافة المستهدفة وتحويلها إلى قيم وأخلاقيات مغايرة ومتناقضة . ويسعى المغزو الثقافي لتفجير النوايا الحسنة والمبادئ الأخلاقية في مجتمعاتهم ، وتحويل الناس إلى واقع آخر ليخدم مصالحهم البعيدة المدى . ويعتبر هذا الغزو خطيراً جداً حيث يوجه نحو شرخ واندثار الهوية الوطنية للشعوب المستهدفة ، ويؤثر بالسلب على تطور الثقافة والمجتمع وعلى الازدهار والتقدم السياسي والاجتماعي والاقتصادي لذلك ، يجب على المجتمعات الإستقبالية الحفاظ على هويتها الثقافية وحمايتها من الغزو الثقافي والاحتفاظ بالقيم والمبادئ الأخلاقية الصالحة والنوايا الحسنة .
تأثيرات الغزو الثقافي على الهوية الوطنية :
عزيزي القارئ ، تأثير الغزو الثقافي على الهوية الوطنية يتمثل بتدمير الموروثات الثقافية المحلية ومحو الهوية الوطنية ، مما يؤدي إلى فقدان الانتماء والهوية المجتمعية للأفراد وتفتيت الشعور بالانتماء الوطني وعليه ، فإن الحفاظ على الهوية الثقافية يعتبر ضروريًا لمواجهة الغزو الثقافي. فالهوية هي ما يميز الشعوب ويعبر عن ثقافتها وتاريخها وقيمها ، ولذلك ، يجب العمل على المحافظة عليها وإثرائها من خلال التربية والتعليم ونشر الوعي بأهميتها لتعزيز الانتماء الوطني والوحدة الوطنية .
الغزو الثقافي والإمبريالية :
في هذا الجزء من البحث ، سنتحدث عن العلاقة بين الغزو الثقافي والإمبريالية فعندما تسيطر الإمبريالية على دولة ما أخرى ، فإنها تسعى إلى فرض ثقافتها عليها ، وذلك لإعادة تشكيل هويتها وتاريخها ومن خلال هذا الفرض ، فإن الإمبريالية تحاول تفريغ ثقافة المستعمَر من محتواها الأصلي وتدمير هويتها الأصيلة وبهذا النحو، فإن الغزو الثقافي يدعم الإمبريالية في سيطرتها على الدول وسلطتها عليها لذلك ، فإن الحفاظ على الهوية الثقافية والتزامها المكرّس يعتبر أهمية قصوى في مواجهة تلك الأشكال من الإمبريالية والغزو الثقافي .
الغزو الفكري والحرب على الإيمان :
يمثل الغزو الفكري تهديداً خطيراً للإيمان والعقيدة الإسلامية ، فمن أهدافه تشويه المفاهيم الدينية والتشكيك فيها ، مما يفتح الباب لتفسيرات خاطئة ومنحرفة للإسلام ونشر الفكر المعادي له وبالتالي يجب علينا النهوض لمواجهة هذا الغزو وتعزيز الإيمان بالعقائد الإسلامية وإيصال رسالتها بصدق ومصداقية ، حتى نحميها من التحريف والتزييف ونحمّي الأجيال القادمة من تأثيرات هذه الحرب الفكرية فلنتحلى بالوعي والحذر ولنكن على يقين أن الإيمان يبقى صامداً والحقيقة ستنتصر في النهاية .
الغزو الثقافي في العالم الإسلامي :
الغزو الثقافي في العالم الإسلامي هو مشكلة شديدة الخطورة فقد تم فيه سلخ ثقافة المستعمر وهويّته ومحو تاريخه وتاريخ الإسلام ، ويقوم هذا الغزو بفرض ثقافة المستعمِر على الشعوب الإسلامية وتشويه الصورة الحقيقية للإسلام والمسلمين . وقد نجح الغزو الثقافي في استدراج بعض الشباب عن طريق إقناعهم بالثقافة الغربية و إيهامهم بأن الثقافة العربية أصبحت قديمة والدين الإسلامي رجعي وتخلف ، وهذا من شأنه تهديد الهوية الوطنية وتأثيرها على تاريخ وحضارة الإسلام في هذا الصدد ، تحتاج المجتمعات الإسلامية إلى تعزيز الوعي بأهمية الحفاظ على الهوية الثقافية والإنسانية ، وتنمية الوعي بالتحديات التي يواجهها العالم الإسلامي ، والمحافظة على التراث الإسلامي ونشر الوعي بدور الشعوب الاستقبالية في بلدانهم .
التبادل الثقافي ودور الشعوب الاستقبالية :
عندما يتحدث النقاش حول الغزو الثقافي ، لا يمكن نسيان دور الشعوب الاستقبالية في هذه العملية بالتبادل الثقافي يعتبر جزءا أساسياً من التاريخ الإنساني ولابد من إدراك أن الثقافات والأديان العالمية ترتبط بعضها ببعض ولا يمكن تفكيكها يمكن للشعوب المستقبلة للثقافات المختلفة أن تتأثر بالعادات والتقاليد والمعتقدات الأخرى تستوعبها في ثقافتها ولكن هذا لا يعني أن الشعوب الاستقبالية يجب أن تتخلى عن هويتها وقيمها الأساسية ، يجب الحفاظ على ثقافة الأمة والإرث الحضاري الذي حصلت عليه ، لذلك يجب على الشعوب الاستقبالية أن تدافع عن هويتها وتحافظ على قيمها المتميزة وتكون قادرة على تنظيم الاستيعاب والتأثير الثقافي بمنهجية ومنطقية لتحقيق الارتقاء بثقافتها ونشرها عبر العالم .
أهمية المحافظة على الهوية الثقافية في مواجهة الغزو الثقافي :
عندما يتعلق الأمر بالتصدي للغزو الثقافي ، فإن المحافظة على الهوية الثقافية تلعب دوراً حاسماً في الحفاظ على مقومات الهوية الثقافية ، يمكننا تقوية الصمود ضد التأثير الغربي على المجتمعات العربية وللقيام بذلك ، يتعين علينا إعادة اكتشاف ثقافتنا ، وإعادة بناء هويتنا ، ونشر موائد التراث والحضارة العربية ومن خلال تعزيز هذه المكونات ، نستطيع أن نبني دولة قوية متماسكة ، تؤمن بتعدد الثقافات والحضارات ، وتتعايش بسلام ومحبة لذا نحن بحاجة الى المحافظة على ذاكرة التاريخ والتراث ، وإعادة تقوية البنية الثقافية للمجتمع ، وهذا يأتي بدوره من خلال دور الدراسات الأولية من المرحلة الابتدائية صعوداّ بباقي المراحل إلى المستوى الجامعي للحفاظ على الهوية الوطنية والقومية للدولة كما أشرنا مسبقاً.