"جدلية الجنس والسياسة فى رواية "السماء تعود إلى أهله
20-01-2020
195
جدلية الجنس والسياسة فى رواية "السماء تعود إلى أهله"
بقلم الروائى ربيع مفتاح – القاهرة
إذا كان العنوان هو عتبة النص كما يقولون فإن السماء ليست ملكا لأحد وإنما المقصود هنا هو الوطن والمعنى أن الوطن لابد أن يعود لأصحابه أى أن الوطن للشعب وليس من حق أحد اخر أن يدعى امتلاكه مهما كان جبروته وإذا كان ذلك قد حدث فلابد للشعب بكل أفراده وفئاته ومهما كان الثمن المدفوع من أرواحهم ودمائهم وثرواتهم ومهما كانت التضحيات لابد من عودة الوطن لأبنائه أى عودة السماء لأصحابه.
جدلية الجنس والسياسة
الجنس والسياسة من أهم مفردات هذه الرواية بل هما الركنان الأساسيان بمعنى اخر الساقان اللتان حملتا هذا البناء الروائى من بدايته حتى نهايته . إن امتزاج الجنس بالسياسة . هذا التداخل بل التعاشق بينهما قد تجلى فى الرواية من حيث بناء الشخصيات والأحداث بل إن الدراما التى حفلت بها نتجت عن هذا الانصهار ألا تذكرنا شخصية صابر فى هذه الرواية بشخصية محجوب عبدالدايم فى رواية القاهرة 30 لنجيب محفوظ حيث يحترف القوا بزواجه شكليا من إحسان الفقيرة المقهورة لحساب أحد المسئولين السياسيين الذين كانوا يملكون أقدار الناس فى مصر فى ذاك الوقلقد فعل محفوظ عبدالدايم ذلك من أجل الاستمرار فى وظيفته والترقى فيها من أجل الهروب من الفقر الذى قهره وأودى به إلى أحط درجة فى سلم الإنسانية إن اختلاط الجنس بالسياسة على مستوى الواقع الحياتى والتاريخى قديم جدا ومعالجته روائيا بدأت مع بدايات الرواية فى الغرب وانتقلت منه إلى الرواية العربية ومن الكتاب الذين عالجوا جدل الجنس بالسياسة بذكاء ومهارة نجيب محفوظ واحسان عبدالقدوس ..
كل كان له أسلوبه
لقد شكلت علاقة الرجل بالمرأة أحد المحاور الأساسية فى هذه الرواية ومن ثم حققت فضاء انسانيا واسعا وقد عالجت الكاتبة هذه العلاقة بوعى شديد وجرأة كاشفة لكثير من المسكوت عنه فى حياتنا إن نقطة التحول فى حياة كل من شمس وفجر حدثت بعد اللقاء مع صابر القواد ومن ثم تكشفت الأغوار النفسية له فى ملحمة جلجامش كان انكيدو يعيش مع الحيوانات حتى مر بمرحلة التحول فى حياته وهى اللقاء مع الأنثى كما جاء فى هذه الأبيات:
فأسفرت البغى عن صدرها وكشفت عن عورتها فتمتع بمفاتن جسده
نضت ثيابها فوقع عليها
وعلمت الوحش الغر فن المرأة فانجذب إليها وتعلق بها
أضحى انكيدو خائر القوى لايستطيع أن يعدو
كما كان يفعل من قبل ولكن صار فطنا واسع الحس والفهم
وهكذا لم يتحول انكيدو ‘لى انسان إلا بعد معرفته بالمرأة
نماذج من شخصيات الرواية
الرواية بما تشكله من فضاء زمانى لانهائى وفضاء مكانى لامحدود
استطاعت الكاتبة أن تستثمر ذلك من خلال تحريك الأحداث بين لندن والعراق وامتدت هذه الأحداث زمنيا إلى ماقبل حرب الخليج
الأولى وحتى الإن . كما حفلت الرواية بشخصيات كثيرة ومتنوعة نجحت الكاتبة فى مزج الحلم بالواقع وصهر الحقيقى مع الخيالى
فجاءت الرواية فى 384 صفحة من القطع المتوسط وهى رواية طويلة من حيث الكم والإيقاع . وقد نجحت الكاتبة فى رسم الشخصيات وبنائها بكل أبعادها الجسدية والنفسية والثقافية ومن هذه الشخصيات :
وليد ذلك الفنان التشكيلى العراقى والمثقف العربى المحبط المقهور العاجز الذى فقد أحد ساعديه من جراء ما حدث له فى السجن والذى يعيش فى عذلة مشحونا بالعواطف حيث تختلط رغباته مع نذواته مع تطلعاته رغم حب ابنة الجيران علية مازال يعذبه إلا أنه يبلغ كفنان أوج اللذة حين تسرب إليه دفء الجسد البض حالة زنبقية بين أنثى وريشة وايقاع لون وخبز احتواء
راوية الوجه الاخر لوليد . الأديبة والكاتبة والمثقفة العربية والتى لم تسلم من نيران القهر بكل أنواعه . القهر النفسى والجسدى والجنسى والثقافى والسياسى . سجنت وتعذبت وتم اغتصابها وتحايلت حتى هربت إلى لندن لترى الوجه المختلف تماما للحياة فى لندن حيث احترام ادمية الإنسان وسيادة القانون وتقديس الحرب شمس ” ذكرى ” وفجر ” عيناء “
هما فى الأصل لوحتان أبدعهما الفنان وليد ولم يكملهما . شمس الفتاة الشقراء المادية الانتهازية الشبقة دائما للمال والجنس والتى لاتعبأ بأية قيم نبيلة مثل الحب والصداقة والوفاء والتى تتحايل على الأثرياء وتغويهم وتعيش حياة ماجنة أما فجر فهى الفتاة السمراء المتمسكة بالحب كقيمة أساسية فى الحياة وخاصة حب وليد الذى أبدعها فسرى فى دمها وكيانها كما أنها تحتقر هؤلاء الزناة الذين يتاجرون بالوطن ولاتشغلهم سوى نزواتهم وذواتهم صابر صابر نموذج للانتهازى الذى يبيع أى شىء ويتاجر فى أى شىء من أجل الحصول على المال والمتعة فيحترف القوادة ويتعامل مع أثرياء هذا العصر بلغتهم ومن خلال استضافته لكل من شمس وفجر تتكشف لنا كثير من أسرار هؤلاء الأثرياء الذين هم نقمة على أوطانهم وليد و "بجماليون" تحيلنا علاقة شمس وفجر . الفتاة الشقراء والفتاة السمراء بمبدعهما الفنان وليد غلى اسطورة بجماليون ذلك النحات الوسيم الذى كان ينحت التمثال فيبدو كأنه مخلوق من لحم ودم . كان بجماليون يكره النساء فأخذ على نفسه عهدا بالا يتزوج أو يفكر فى النساء وبالرغم من موقفه هذا كانت أجمل تحفة فنية له عبارة عن تمثال لإمرأة فائقة الحسن لكن بجماليون أصابه أمر خطير فقد أحب تمثاله حبا شديدا وأصبح يقضى معه ساعات الليل يقبله كما لو كان هذا التمثال امرأة من دم ولحم وفى هذه الرواية تجسدت كل من شمس وفجر تجسيدا انسانيا سمع صوتا اخر يناديه باسمه . كلمه وليد فى صمته
ـــ ويحك وليد . صرت تكلم نفسك . الله يلعن الوحدة وتتهيأ أيضا.
رش لونا ذهبيا على اطار الصورة المركون أرضا
ــــ الشقراء رمز الغواية
تردد الصوت ثانية . وليد . وليد
ـــ يارب أنا أكلم نفسى . إذا من أنتما ؟ هل أنتما من الجن ؟
ـــ وهل لرجل مثل وليد وثقافته أن يؤمن بالجن ؟
ـــ نحن امرأتاك . اقترب من اللوحة . هل تسمعنا جيدا
نريد أن نعقد معك اتفاقا
لقد أضاف هذا المزج بين ماهو خيالى وماهو حقيقى أبعادا جمالية للرواية كلنا فى القهر عرب.
تعاملت الرواية مع ثيمة القهر تعاملا فنيا من خلال تجسيده عبر شخصيتين . الأولى وليد الفنان التشكيلى والثانية راوية الكاتبة والأديبة . كان لابد للعهر السياسى من أذرع تطال كل من يعترضه أو يحاول أن يكشفه ومن البديهى أن تطال هذه الأذرع أول من تطال هؤلاء المثقفين من كتاب وفنانيين فهم غالبا ضحية الاستبداد السياسى ووقوده فى غياب الديمقراطية وانتهاك حقوق الإنسان
وفى ظل غياب سيادة القانون جاء على لسان راوية:
ـــ لقد أطلقت على العراق اسم جبار بعد أن عرفت لماذا يكثر فى بلدنا اسم كهذا ولو لم يكن هذا الشعب جبارا لما تحمل الجبابرة على مر العصور.
وعلى لسان راوية فى مكان اخر تقول:
ــ قررت الانتقام منه . وعوضا عن ثلاثة رجال خذلونى بشرعية التفسخ وشرعية نخاسة تلاقح بعضها . ولكن بتريث . فبعد حصولى على إقامة دائمة . القانون هنا يحمينى فأنا فى بلد القانون ولست فى بلد انتهاك القوانين وكان القهر الواقع على المرأة مضاعفا فالنظام السياسى المستبد يقهر الرجال والنساء معا ثم ياتى الرجال بعد ذلك ليمارسوا قهرهم على النساء وكأن المرأة تدفع الثمن مرتين فى تعرضها للقهر النفسى والجسدى والجنسى والنماذج التى جاءت فى الرواية تؤكد ذلك . إن قهر المرأة فى المجتمعات العربية أصبح أمرا مستباحا وهذه الرواية بما حفلت به من نماذج وأحداث تضع لنا هذه الحقائق تحت المجهرالسرد والحوار.
تعددت ضمائر السرد فى الرواية من السارد الغائب العليم إلى السرد على لسان راوية التى كانت بالفعل راوية اسما ووظيفة وجاء السرد أيضا على لسان شمس وفجر ووليد ووصابر بالغضافة إلى المونولوجات الداخلية بين الشخصيات وذواتها.
أما الحوار فقد وصل إلى درجة عالية من التكثيف والشعرية وقد تميزت الرواية به وكشفت من خلاله الكاتبة عن مكنونات النفس العربية فى جميع أحوالها . ويعتبر الحوار الذى دار بين "فجر " ” عيناء ” وبين صابر ” القواد ” نموذجا جيدا للحوار فى الرواية
ــ هل تنتقم من الأثرياء أم تمتصهم كما امتصك الشارع ؟
ــ أغلبهم سيدتى مجرد أجساد ترتدى أكاذيبها . تشترى لعريها من أغلى الماركات العالمية . غال من أجل الرخيص . وكلما رخص الجسد غلا الثوب . هم سماسرة حكومات . عبيد كراسى وأنا أستعبدهم بتعففهم المصطنع أما تخفيهم تحت عباءة الدين والحلال والحرام وعشرة الاف لايجوز ومئة الف لايجوز . يجوزونه من أجل متعتهمغنه حوار يميل كثيرا إلى الشاعرية ويتراوح بين الإيحاء والوضوح يستثير الذكريات والعواطف مأخوذا من تعقد الحياة ويتجاوز الواقعية لكنه يمثل التجربة الانسانية عن طريقى المحاكاة والرمزية لغة الرواية لغة السرد فى الرواية ليست لغة محايدة وإنما لغة مشحونة جماليا ومعرفيا ” فى حرب الخليج الثانية عاش الوطن بلاوطن . بتنا نسف أوجاعنا كما تسفى الريح الرمال خوفا من حفرة حلم نقع فيها وحذرا من اتجاه قلب نتعلق به أما ” عيون المها بين الرصافة والجسر “فقد أتلفتها خيوط العنكبوت والطائرات العاشقة لأجساد أبنائنا قد يرى البعض فى وجود بعض المفردات أو التركيبات نوعا من الإباحية أو التجاوز ولكننى أرى أن العهر السياسى الذى يجتاحنا كبر بكثير من هذه المفردات والتركيبات.
يقول سومرست موم
” إن المنجم غنى جدا بالذهب ولكن الكاتب لايستطيع أن ينال منه إلا كمية محدودة ومع ذلك فقد يموت الكثيرون جوعا برغم وجودهم فى قلب هذا المنجم الذهبى “هذا المنجم هو الخبرات والتجارب والأحداث التى يكابدها الكاتب وقد استطاعت الروائية وفاء عبدالرزاق أن تستخرج من هذا المنجم مايكفى لكتابة رواية مؤثرة وفاعلة.