وفاء عبد الرزاق والرواية الجديدة
20-01-2020
185
وفاء عبد الرزاق والرواية الجديدة
د. نادية هناوي سعدون
تعد الكاتبة العراقية وفاء عبد الرزاق واحدة من الروائيات اللائي يمكن وصفهن بكاتبات الرواية الجديدة كون البناء الفني قد انصب عندهن على تجلية حقيقة الواقع الراهن في العراق المنغمس في ظل الإرهاب والعنف رغبة في كشف ملابساته عبر الخوض المعمق في تفاصيل واقعية مريرة وقاتمة أسهم الإرهاب بشروره كلها في جعل ذلك الواقع مشوشا وفوضويا يعج بالجرائم والاقتتال والسوداوية.
وهذا ما نجده واضحا وجليا في روايتها (رقصة الجديلة والنهر) الصادرة عن شركة العارف للمطبوعات ببيروت العام 2015 التي يمكن عدها رواية قصيرة حاولت فيها الكاتبة ملاحقة تفاصيل الواقع الراهن مستعينة بذاكرة حية ناطقة وموظفة الوقائع والأخبار بعين مراقبة لدقائق الواقع المعيش.
وتتحرك أحداث الرواية حول ثيمة الإرهاب متخذة من ديالكتيكية التساؤل مرتكزا بنائيا لها وهي تفتتح باستهلال استفهامي لكنه شاعري، وقد تقصدت الكاتبة أن تجعل في مفتتح كل فصل من فصول الرواية عنوانا فرعيا فيه تكثيف شاعري أما اختزالا أو انزياحا.
ادانة واقعية
والرواية بتناولها لجرائم داعش بدت بمثابة وثيقة شجب وإدانة واقعية علنية لأفعال الإرهاب والتطرف الذي اتخذ من الدين ستارا يغطي به أفعاله اللاانسانية.
ولا مناص من القول إن الرواية في الوقت الذي تدين التطرف فإنها تمقت أيضا التعصب بمعنى الانتماء إلى عصبة والفناء فيها فناء كليا نابذة كل أنواعه التي منها تتوالد الشرور وتتأزم الحياة وتتقهقر الأماني.
وفي الوقت الذي أرادت به هذه الرواية توكيد التصارع بين الخير والشر؛ فإنها داومت على جعل ثنائية الحياة والموت هي المصدر الثر للتساؤل والحدس والاستقراء.
وعلى الصعيد البنائي تبنّى السارد العليم المقتحم السرد الموضوعي من أول الرواية إلى آخرها بمنظور يستبطن دواخل الشخصيات مطلعا على أسرارها.
وقد رُسمت أغلب الشخصيات لتكون حيوية محورية بفاعلية الانقسام الداخلي والتضاد الشعوري بين المكين والمكان جسدا وروحا، كما تم توظيف الحوارات الخارجية بأنواعها المباشرة وغير المباشرة داخل السرد.
وتستمد الرواية شخصياتها من حيوات الواقع العراقي المعيش وما فيه من أقليات وطوائف وأعراق مختلفة عربية وكردية ومسيحية وايزيدية.
ولا تخلو الرواية من المقاطع الوصفية التي تمنح السرد وقفات لالتقاط الأنفاس والتخفيف من حدة التصاعد الدراماتيكي لبعض المشاهد السردية بنوعيها التصويرية والبانورامية التي تعج بطاقة درامية عالية بسبب ما فيها من فجائع مريرة كالذبح والاغتصاب والتعذيب وهي مستقاة من الواقع وما فيه من الفجاجة والقسوة كمشهد الاغتصاب الذي طال تمارا وقد فقدت صوتها جراء ذلك الفعل الشنيع او استحضار جريمة سبايكر ومذبحة النهر وغيرها.
ويعلو صوت شخصية (حامد) ليقف بوجه الموت عبر العزف متغلبا على الإرهاب لا بالسلاح والتدريب والعقيدة؛ بل بالإصرار على العزف الذي جعل الجسد قادرا على الارتقاء روحيا ليتجرد من ماديته وليصبح كينونة لها وجودها أرضا وسماء حقيقة ومجازا.
وهذا ما انطبق بالفعل على الشخصيات النسائية اللائي قاتلن داعش ليكن أرواحا ببراءة وصفاء مانحات الوجود الحياة ومتجسدات بالعزف كحضور واقعي حنون ونور أثيري بريء.
وقد أدى التساؤل في الخطاب الروائي دورا وظيفيا كونه عمل على تشتيت الذات بين مساءلة الوجود متمثلا بالعزف وبين مساءلة العدم متمثلا بالموت ..
وما المناجاة بموسيقى الناي إلا لأن الكلام عجز عن أداء دوره أمام البراءة المسلوبة لتتلاقى البراءة ممثلة بالطفل الأبكم ذي السبعة أعوام بالسمو ممثلا بصاحب الناي ليعيشا واقعا مفترضا صنعاه بالضد من الواقع الفعلي.
علاقة وجودية
والرواية في جملتها تستحضر حكمة الوجود في الناي وأن الواقع الراهن ما هو إلا امتزاج ديالكتيكي وعلاقة وجودية بين الفاجعة الأليمة والناي الرخيم الذي تلاشت في ألحانه كل الفجائع الإنسانية البشعة من ذبح وتفجير ورحيل وموت
ويكون في مواصلة العزف رفض علني للصمت وامتداد ارضي إلى السماء (سأعزف واعزف ليصل صوتي السماء ويتحول اللامرئي إلى عوالم ضوء)
ص 10
وهذا ما يتناغم مع التوجه الواقعي الذي سارت الرواية في هديه، انطلاقا من محفز نفسي واع وغير واع وباستعمال المونولوجات الداخلية (لماذا لماذا الدماء تملأ الرسائل وتحيلها شحوبا؟ لماذا لا ينقل الهواء كلامنا ويخترق كل أذن؟ لماذا الجلادون ينحتون أحرف أسمائنا ويشاركهم جلادون مثلهم من أرضنا؟) لتكون بمثابة تموضعات مهمة تحفر في بؤرة فكرية، ليس فيها عن أسئلتها أجوبة شافية أوقاطعة.