الروائية العراقية وفاء عبد الرزاق في "دولة شين": رصد الصراع الأزلي بين الإنسان وقرينه
08-09-2019
200
الروائية العراقية وفاء عبد الرزاق في "دولة شين": رصد الصراع الأزلي بين الإنسان وقرينه
عدنان حسين أحمد
تُوغِل الروائية العراقية وفاء عبد الرزاق في روايتها التاسعة ذات العنوان المُشفّر “دولةُ شِين” في مناطق مجهولة لم يطأها أحد من قبل بهذه الجرأة النادرة التي تناولت فيها الموضوعات المحظورة، والقضايا المسكوت عنها متجاوزة التابوهات الثلاثة دفعة واحدة، ومُعرّية إيّاها أمام الملأ بحجج دامغة من دون خوف أو وجل.
تُعد هذه الرواية الأكثر عُمقًا وحساسيّة بين رواياتها الثماني السابقات لأنها تتمحور، حقيقة ومجازًا، على صاحب العرش العظيم الذي يعرف ما في السرائر، ويستجلي ما في النفوس والأذهان. وإذا اتفقنا أن نذهب إلى الفضاء المجازي الذي لا يقلُّ أهمية عن الفضاء الحقيقي المستقر في ذاكرة الروائية وفاء عبد الرزاق فإن شخصية كريم بوصفه الملك الأعظم الذي يتسيّد على الجهات الأربع لهذه المعمورة، وإن تنقّلت بنا الكاتبة منذ بدء الخليقة حتى الوقت الحاضر وأخذت من الزمان والمكان والشخصيات والأحداث ما يناسب نسقها السردي الذي بدا سلسًا وعفويًا ومُقنِعًا إلى درجة كبيرة يؤكد تمكّنها من أدواتها الفنية بطريقة لا تقبل الجدل، ولعل سرّ النجاح يكمن في إقناع القارئ بأنّ الوقائع والأحداث التي تجري أمامه كأنها حقيقية وليست من صنع الخيال.
قد تكون “دولة شين” رواية خيالية مطعّمة بالواقع، والعكس صحيح لكن فنتازيتها أقوى وأشدّ وتصل بها إلى درجة الغرابة، ذلك لأن مضامين النص وتشعباته الحكائية المبثوثة في النسق السردي الذي يتألف من 13 بابًا تنتمي إلى الفضاء الديستوبي Dystopian الفاسد والمرير الذي راهن عليه شين وكسب الرهان في خاتمة المطاف.
لا يكمن نجاح هذه الرواية في مضمونها فقط على الرغم من أهميته وإنما في تلاحم الشكل مع المضمون بحيث تماهيا معًا وأصبحا مثل الأواني المستطرقة التي يُغذّي بعضها بعضًا، فلقد رسمت الروائية مُخططًا مُحكمًا للبنية المعمارية التي تتألف مبدئيًا من شخصيات المملكة الرئيسية التي يتربّع على عرشها “الملك” كريم والقادم الجديد “نديم” الذي سيتزوج من “حسنى” المرأة التي يحبها، ويُنصِّبه رئيسًا لوزراء المملكة الأمر الذي يستفزّ “شين” ويُغضبه فيتمرد على الملك ويعصي أوامره لأنه لا يريد الخضوع إلى شخص أدنى منه مرتبة وشرفًا. وحينما يشمّ الملك رائحة التمرّد والعصيان يقرر نفي شين وطرده من أعالي الجبل إلى أعمق وادٍ فيه. وإذا كان الملك يرى فيه أول عاصٍ لأوامره فإن رضوان يرى فيه “أول ثائر كوني وأزليّ” ترك المملكة وراء ظهره، وتوعّد نديمًا وذريته الفاسدة بالويل والثبور. وفي طريقه التقى الراهب الذاهب إلى زيارة المملكة وطلب منه أن يأتيه بأخبار نديم وما يدور داخل المملكة. وحينما عاد أخبره بأنَّ نديمًا قد خرق الوعد وأنَّ الملك قد غضب عليه ونفاه خارج سور المملكة.
أشرنا سلفًا إلى غرائبية النص، فبدل أن تدور الأحداث في عمق الوادي نرى الراوي شين، المطرود من جنّته في صحراء، وثمة أبواب صُفت إلى جوار بعضها وكوّنت سورًا من دون حوائط أو جدران، فأخذ يتلصص من الثقوب ويصرخ عاليًا: “أما من مُعلمٍ خلف هذه الأبواب؟” تنكّر شين بملابس فقير ليلج الأبواب الثلاثة عشر ويدوِّن كل ما يراه ويسمعه في دفتره ليُثبت خسة الإنسان ودناءته. تتصدر كل باب توطئة تُمهِّد لقصة جانبية تؤازر الثيمة الرئيسة وتُعمِّقها مثل “الاكتشاف”، “حيرة”، “ليل حالك السواد” حتى ننتهي بـ “الرجوع”. وفي بعض الأبواب هناك أكثر من قصة تُعرّي سلوك الكائن البشري. ففي تمهيد الباب الأول يرى الراوي من ثقب الباب قرودًا تُعاشر الحمير وتُنجب ذريّة مشوّهة. أما متن الباب الأول فيكشف عن أمير وعلاقته بالمومس إسراء، ويحاول أن يسحب بساط العفّة من تحت قدميّ أنور. وثمة حكمة في كل فصل من فصول الرواية على غرار: “الدين ليس سكينًا للذبح، الدين قناعة ورضا”.
تتجسّد في الباب الثاني قصة الشبيه أو القرين أو الندّ، فلكل شخصية من شخصيات الرواية نظيرها الذي يلازمها على الدوام، تمامًا مثل شبيه بشرى أو شيطانها على الأصحّ، ثم يلتقي الشياطين الثلاثة لأمير وأنور وبشرى، وهكذا نتعرّف على شخصيات الرواية بحسب حروفها الأبجدية التي تبدأ بـ “أ” وتنتهي بالحرف الثالث عشر “شين”. ما تعرفه بشرى أن إمام المسجد الجديد هو والدها، وقد شاع بين الناس أنه هارب من السجن، ومتخفٍ بهذه الهيأة، وقد اكتشفت زوجته مداعباته الغربية للطفلة بشرى فأقسمت أن تبلّغ عنه الشرطة. وفي منازعته للموت اعترف بأنه اعتدى عليها غير مرة ولعلها تسامحه في النزع الأخير. يتلقّى أحد الجيران رسالة تهديد بخطف حفيده الصغير فلم يكتثرت بها لكنهم خطفوه وابتزّوه ماديًا، وفي غضون أسبوع وجدوا الطفل مخنوقًا في ثلاجة إمام المسجد، وأظهرت التحقيقات أنّ إمام المسجد وزوجته يرأسان عصابة لسرقة الأطفال!
يضم هذا الباب أكثر من حكاية حيث نتعرّف على برهان الذي يرسم الأوشام على الأكتاف والصدور، وبشير الوافد الباكستاني الذي يعتبر الرسم حرامًا لكنه تفاعل معه وبدأ يرسم صورًا للشياطين، فاجتمع الشياطين الأربعة، ودرّبوا شيطان برهان الذي ما يزال بِكرًا، ثم وجّهوا الدعوة لشيطان بشير كي يكون عونًا لهم في جلب شياطين آخرين.
تتواصل تقنية التلصص من ثقوب الأبواب فنرى بعين الراوي أناسًا يسلخون جلود الحيوانات وهي حيّة، وآخر يدفع حماره من قمة شاهقة ويتلذّذ بمنظر جسده المشطور إلى نصفين. وفي هذا الباب يصادق التاجر توفيق جارته تغريد التي منحها الله زوجًا خائنًا، وحبيبًا لا يفهم كُنه المرأة، ومع ذلك تستلقي على السرير وتخون زوجها الذي خانها مع الخادمة، وصادق يخون زوجته لأنها خانته مع سائقه، فيتحرر الاثنان من وجع الخيانة بخيانة مُضادة.
تحاول الروائية تغطية مساوئ البشر التي راهنَ عليها شين فلاغرابة أن نرى القتل، والتمثيل بالجثث، والخيانة الزوجية، واغتصاب الأطفال، وزنا المحارم، وممارسة اللواط، والسحاق وما إلى ذلك فنحن في حقل يزرع الخسة وينتظر حصاد الشرور. ولا بأس في العودة إلى الأساطير والخرافات التي تستثمرها وفاء عبد الرزاق بدراية في قصة “جاسم” الذي تنكّر بشخصية ساحر يعالج طفلاً مصروعًا بغية الوصول إلى شقيقته جميلة الحسناء التي يقنعها بالهروب معه والزواج منها، ثم يختفيان مع السائق، وتُسجّل القضية ضد مجهول.
وبينما يُنتخب أمير رئيسًا لمنظمة الغواية وأنور نائبًا له تتوالى القصص الفرعية، فثمة رجل طاعن في السن يشتري الطفلة حذام وينفث سمومه فيها، وخليل، مالك البناية يخدع خولة ويتزوجها على أمل تسجيل العمارة باسمها لكننا نكتشف أنه متزوج من ثلاث نساء وكلّما تزوج الرابعة طلّق إحداهن كي يظل مسلسل الزواج قائمًا. في الباب الثامن تتزوج دلال من مدير مدرسة المدينة فيغرقها بالأكل والشرب والذهب لكن جسدها الغضّ يظل جائعًا للجنس فتغوي ابن أخته وتمارس معه الفاحشة، فيموت المدير في حادث سيارة، ويسافر ابن أخته إلى الخارج. وفي الباب ذاته يمارس دريد زنا المحارم مع بناته وتموت إحداهن نتيجة لعملية الإجهاض، بينما يُزَجُّ بالمجرم إلى السجن. ولا تتورع دينا من إغواء شقيقها الأصغر ليتضاعف عدد الشياطين في منظمة الغواية.
ما يحدث في الباب التاسع أقسى وأمرّ، فذو النون الخمّار، والمرتشي، وبائع الحشيش يعتدي على ابنه ذياب ويعاشره يوميًا، ولم يمانع من بيع جسده لذاكر شرط مضاعفة الثمن لكن ابنه يصب عليهما النفط، ويُشعل فيهما النار، فيموت الأب ويتم إنقاذ ذاكر. وفي خضمّ هذه الأحداث يدوّن شين كل ما يراه لكي يثبت أحقيته في الثورة التي فجّرها بينما يتضاعف عدد الملتحقين بمنظمة الغواية.
تتوالى الفظائع في البابين العاشر والحادي عشر حيث يستدرج رسول مجنونًا إلى المقبرة ويمارس معه تجربته الأولى، ويغوي طفلة يقضي وطره منها وهي حيّة ليكرر فعلته الشنعاء وهي جثة هامدة ثم يرميها بين قبرين بعيدين. أحدهم يقدّم تقريرًا مزورًا لمصلحة ثري كي يذهب للحج بالمال الحرام، وابن تغويه أمه إلى زنا المحارم فيذبحها بالسكين بعد أن يقع في فخّ الغواية.
نواجه في الباب الثاني عشر أبشع وجه للإنسانية حيث يقرر شين أن يُلغي البشر ويحتفظ بأسماء الشياطين الذين بلغ عددهم 32 اسمًا يبدأ بأنور وأمير وإسراء، ويمرّ بخولة وخليل ودلال، وينتهي بزهدي وسعيد وسمير.
يؤسس شين دولته ويتم انتخاب أنور رئيسًا لمدة أربع سنوات، وأمير نائبًا له فيما يتولى الآخرون مناصب الدفاع والداخلية والخارجية والثقافة ولا يفرّقون بين أصيل ووافد لأنهم يتعاملون مع قوة وعمق الشيطنة في كل شخص على انفراد، ولم يتركوا شيئًا على حاله فلقد جلبوا الرؤوس لجزّها، والصبيات لمعاشرتهن، وهدموا كل شيء على وفق دستور الدولة الشينية. كما علّقوا على الجدران شعار مدينتهم “اليد الحمراء” المصبوغة بالدم. ورغم كل الحقائق التي دوّنها شين إلاّ أنه كان يشعر بأنه المتصحِّر الوحيد بين المخلوقات كلّها.
يمهد باب “الرجوع” إلى النهاية المدروسة بعناية فائقة، فحينما دفع شين الباب الثالث عشر لم يكن يعرف أنه باب بيته فوجد في داخله اثنين من أعوان كريم، أحدهما لديه دفاتر كثيرة، والثاني لديه دفتر واحد فقط. في دفاتر الأول ثمىة تزكية وتأييد لمواقف شين، أما الثاني فلم يدوّن سوى سطور قليلة. أخبر شين صديقيه بأنه عازم على الرحيل إلى الجبل حيث القلعة وهو يحمل تحت ابطه خزينته لعل “الملك” لن يفرّط به ثانية. يحاور شين في دخيلته الملك الساكن في الأعالي، ويسأله عن سبب قسوته التي أفضت به رغم ذلك إلى السعادة الغامرة فلاغرابة أن يشتاق لمداره الصافي، ولجلال طلعته البهيّة. وحينما دخل شين وجلس في مكانه الفارغ الذي لم يملأه أحد في غيابه فغيّر كريم مسار خطبته وقال: “إن أردت أن تحيا حياة هادئة، فلا تكترث لأيامك السابقة، وعليك أن تنعم بحضورك”. وضع شين الدفتر الذي ينطوي على إثبات براءته أمامه، بينما تحلّق الفرسان حول كريم مُدركين تمامًا بأن مؤسسة الشرّ هي التي تحكم العالم فغابت الشبهات المُبهمة وتلاشت إلى الأبد.
وفاء عبد الرزّاق: “دولة شين”
دار أفاتار للطباعة والنشر، ط2، القاهرة، 2019