المنظمة العالمية للإبداع من أجل السَّلام/ لندن

تشظي الذات المؤنثة في رواية السماء تعود إلى أهلها: بين فاعلية الهيمنة وإرادة الإقصاء

01-02-2020


195 

تشظي الذات المؤنثة في رواية السماء تعود إلى أهلها: بين فاعلية الهيمنة وإرادة الإقصاء

أ‌. د. نادية هناوي سعدون

كلية التربية / الجامعة المستنصرية/ العراق

مدخل / الرواية النسائية بين التغريب والتفكيك

أرست الرواية الجديدة على الصعيد العالمي وجودها كمصطلح اقترن ظهوره بالحداثة وقد عرفها روائيو الغرب من امثال ناتالي ساروت والان روب غرييه وميشيل بوتور..

واهم ميزات الرواية الجديدة التغريب والتجريد الادبي والرفض لأي نوع من انواع التحديد الاجتماعي للإنسان مع اظهار بشاعة الحرب والاحتلال والكوارث التي تروع البشر وترعبهم وتعرضهم لقبح الارهاب وظلاميته.

والتغريب واحد من الانقلابات الفنية التي كانت من نتاج مرحلة ما بعد الكولونيالية انحرافا بالواقعية التقليدية نحو واقعية جديدة، فقد فيها الانسان القدرة على إعادة بناء نفسه أو أنه دمرّ نفسه بنفسه..

ونتيجة لذلك غيرت بنى الخطاب المركزية مواقعها وتشظت لتحل محلها بنى مغيَبة تصادر ادوارها ومن تلك البنى المرأة كذات وموضوع كاتبة ومكتوبة، قارئة ومقروءة من منطلق واقعي يرى أن الانسان" في تغير مستمر الإنسان هو دائما إنسان آخر رغم أنه نفس الانسان وذلك لأنه لا يكف أبدا عن البقاء انساناوالمرأة بنية خطابية لها الحرية المطلقة في أن تتموضع في المكان الذي يسمح لها أن تفكك ذاتها او تشظي الاخر وليست مجرد موضوع أدبي معتاد وتقليدي" يسير موازيا لشخصيتها احيانا كان بمثابة الظل، واحيانا اخرى كان الواجهة التي نرى المرأة من خلالها"

وفي العراق شهدت الرواية الجديدة في ما بعد العام 2003 انقلابات مهمة واقعيا وفنيا مستوعبة أغلب المتغيرات الاجتماعية والسياسية والحياتية التي شهدها الواقع العراقي بعد سقوط الدكتاتورية.

وكان المتحصل منحازا في ملامحه كميا ونوعيا نحو مشهدية روائية بقيت رهنا بالبحث عن المضامين اكثر من بحثها عن الاشكال ومتجهة نحو تفكيك المتمركزات الاجتماعية والتركيز على البنى المهمشة، وقد تجلت في ذلك كله وعلى المستوى الموضوعي واقعية تغريبية ذات سمات خاصة تسمح لكل ما هو قبيح وبشع أن يظهر بحذافيره كتبرير حتمي لبشاعة الواقع ومرارته.. فما من فرق بين الواقع الحادث والواقع الممكن الحدوث لان كليهما متحصل وقد يبدو ما هو غير واقعي معقولا وما هو واقعي قد يصبح لا معقوليا متغربا .

وكل ذلك عبر التغريب كوسيلة تقرب بها حقيقة الواقع بكل منغصاته بعد ان فقدت الاساليب التكنيكية التقليدية القدرة على لمس الحقيقة بعمق بكل ما فيها من قسوة وعداء وعنف وخرق وتهشيم.

ويظل هذا التوظيف التقاني متوقفا على مقدار الموهبة التي تمنح صاحبها ارتياد عوالم واقعية الضد ازاء الصراع الازلي بين الثنائيات القيمية للحياة كالخير والشر/ السائد والمسود /المهيمن والهامش /المؤنث والمذكر وهذه الثنائية الاخيرة بزغ نجمها في سياق البحث عن الحقيقة مقترنا بطروحات فكرية ما بعد حداثية تقوم على اساس ان الاصل مؤنث و" أنه من دون تأنيث التاريخ الانساني لا يحتمل أن يبقى العالم حيا" .

وكان من تجلياتها على الصعيد الروائي أن هيمنت المسرودات والساردات المؤنثات على الكتابة الروائية التي طالما ظلت رازحة تحت طائلة السرد الفحولي بمركزية الرجل ذاتا.

وهذا ما انتج الادب النسائي الذي لا تكتبه النساء حسب لأنه وان كتب بقلم المرأة قد يبقى اسير الرجل على وفق ما ألفته الرواية التقليدية واعتادت عليه؛ بل هو الادب الذي يعلي من سلطة المؤنث ويجعل منه المبادر والمتسيد على صعيدي السارد والمسرود وليس على صعيد الكاتب او الكاتبة، ومن الكاتبات اللواتي ارسين تقاليد الادب النسائي الروائية الفرنسية مادلين دي سكودري..

والكتابة النسوية هذه انما تندرج ضمن محددات نظرية تبناها النقد النسوي مابعد الحداثي الذي" لا يعني النقد المكتوب من قبل النساء فحسب وانما هو ممارسة تتقصى التمييز بين ذكورية المجتمع وغيره .. ليبلغ الممارسة الانثوية في اللغة مارا بالمجابهة والصراع والاستقلال والوعي الانثوي" .

ولا يكون الادب نسائيا ما لم يكن ميدان السرد فيه معليا من شأن المرأة ورافعا صوتها لتصارع مركزية صوت الرجل مستقطبة اياه حولها كبنية ثانوية او كيان مهمش..

وهذا ما لا يقر به الادب الفحولي الذي لا يجد في المرأة ذاتا متبوعة بل يراها موضوعا تابعا فرض عليه الرجل ثيمات خاصة ومنها ان المرأة هي رمز الغواية وسبب الخطيئة..

وقد ظل هذا المفهوم الاخير سائدا في الادب العالمي مستلبا حقوق المرأة ملصقا بها تهمة لم تستطع الدفاع بها عن نفسها .. الى ان ظهرت بعض الحركات التحررية النسائية الغربية التي كان لها دور مهم في تأكيد حق النساء في استكشاف لاوعيهن وتطوير اشكال جديدة من التعبير تستجيب الى قيمهن

وما تطور هذا النوع من الادب الا جنوسة ثقافية واعية منبثقة عن وازع نفسي اساسه الاحساس النفسي بان الفشل الأنطولوجي هو الذي يولد الفن" ويسمح بطبيعته كهبة بإنقاذ الانسان من التشيوء بواسطة الاخر ويسمح للإنسان بان يتجاوز ذاته باستمرار وبان يتخطاها وبذلك يحمل الفن قيمة ما ورائية وميتافيزيقية"

ويميل هذا النوع من السرد عموما الى الاستثمار المعلي من شأن المؤنث والمحتوي له فنيا وموضوعيا تعبيرا وبناء، لتنجمع خيوط السرد مع بعضها متواشجة متجانسة في كيفية يتم فيها تطويع التقانات الفنية واستجلابها الى ميدان السرد عبر مركزة المهمش او تهميش الممركز وقلب الانساق وتهديم السياقات وتثوير المستويات ..الخ

ورواية السماء تعود الى اهلها للروائية وفاء عبد الرزاق تنضوي في خانة الرواية العراقية النسائية التي تقدم الشخصيات النسائية متحصنة بقدرة موضوعية تمكنها من اعادة صياغة كينونتها متعرفة على ذاتها الحقيقية مشيدة وعيها المؤنث من خلال الاعلان عن نفسها والاضمار للآخر.

وقد تم لها ذلك عبر اللغة التي طوعت انثويا لتكون في صالح المرأة نافضة عن كاهلها ذلك القهر الذي ظلت تعانيه حين كانت اللغة جزءا من خطاب يلبي دوافع الرجل ومجرد موضوع ثقافي وليست ذاتا ثقافية او لغوية

وفي الرواية موضع الرصد سنلمس كيف تمتلك المرأة القدرة على ان تنتهك التقليدي والمعتاد متمردة فنيا وموضوعيا بهدف كشف الحقيقة وفضح المستور ومكاشفة الآخر من خلال نفسه ليغدو مجرد قطب تابع لا يظهر الا كهامش وفحولته مقصية لا تستقيم الا تحت مظلة الانثوية..

وتتشظى الذات في الرواية الى كيانين مؤنثين متمردين على نفسيهما أولا وعلى صانعهما آخرا فبعد ان كانا يقبعان داخل لوحة فنية فانهما يتحرران الى خارجها لتكون لهما حرية التجول في الواقع على هيأة امرأتين سمراء وشقراء وفيهما سر يطوقهما كامن في النظرة التي منحها الفنان وليد لهما فالسمراء مترددة وخائفة من المجهول من خلال نظرتها المتوسلة الراعشة اما الشقراء فمتحدية وشجاعة من خلال نظرتها المحدقة الى المجهول بثقة.

وتصبح المرأة مالكة لكينونتها معلنة عن نفسها مركزيا عندما ترفض الدور الذي اختطه الرجل لها ككيان تابع لا يملك قرارا ولا استقلالا فتكون قادرة على تبادل الدور مع الرجل لتجعل منه تابعا لا متبوعا وهامشا لا مركزا وهذا ما قررته الصورتان الانثويتان في اللوحة بعد ان عقدتا مع الفنان وليد اتفاقا مفاده أن يمنحهما حريتهما ولكن بشرط ان يعودا اليه بعد اثني عشر يوما وهو موعد افتتاح المعرض للزوار..

اما وليد الشخصية الذكورية التي أمدت الكيان الانثوي بالحياة والحضور والمركزية؛ فان وظيفته لا تعدو ان تكون هامشية في السرد وقد جعلته الكاتبة مبتور الذراع ومؤسلبا بين ماضيه الذي يقدس القيم؛ وحاضره الذي يهرئ الثوابت ويدنسها لتضيع ذاته منشطرة في كيانين احدهما مستلب لكينونته والآخر مهمش لها وهذا ما ساعد على مركزة الفعل المؤنث داخل المشهد السردي .

واهم سمات شخصية وليد انها هامشية ثابتة قارة غير قادرة على التغيير مستسلمة بخنوع وبلا ادنى مقاومة فهو حي وميت معا، بينما حضرت المرأة مهيمنة بثقة على اطراف العملية الابداعية كلها ..

وانسياقا مع ابعاد المكاشفة في الرواية مدار الرصد التي منحت الذات النسائية هيمنة شبه تامة ؛ فإننا سنتناول الكيفية التي بها وثقت الذات علاقتها بنفسها وحددت من ثم صلتها بالآخر الذي تشظى موضوعيا وتفكك فنيا متشكلا في سياق الكينونة الانثوية المؤلفة والساردة والمسرود لها؛ وعلى ثلاثة مستويات هي:

  1. الهيمنة مناصا على مستوى ما قبل السرد.
  2.  الهيمنة تشظيا واقصاءً على مستوى السرد.
  3.  الذات بين التشظي والهيمنة على مستوى القراءة.
  4. اولا / الهيمنة مناصا على مستوى ما قبل السرد

انخرط جيرار جينيت كغيره من السيميائيين والشعريين في مساءلة النص بمكوناته السردية بوصفه منطقة قابلة للحفر والتأويل لا يظهر عاريا من مصاحبات لفظية او ايقونية تكون بمثابة مناطق حافة ومتاخمة له تعمل على انتاج معناه ودلالته، وقد اصطلح على ذلك بالمناص أي ذلك النص الموازي للنص الاصلي .

وهذه المناصات هي ايضا متعاليات نصية لها وظيفة سيميائية منها ان هذه الرواية نسائية مدخلا واهداء وفصولا سبعة وعنوانا رئيسا وعنوانات فرعية وفيها الذات المؤنثة كون متخيل وكون واقعي.

وتتأطر ثيمة العنوان الرئيس في معنى مؤنث(السماء تعود الى أهلها) وهي تنزاح بفعليتها المضارعة وبأسلوبيتها المجازية من تجسيد صميمية الترابط بين الارض والاهل الى تجسيد الغربة بينهما أرضا واهلا، فالأهل في معاناتهم صنوف القهر والاستكانة والظلم انما يعودون الى السماء وليس الى أرض الوطن في استمرارية سرمدية ان العودة جيئة وذهابا هي استعلام استباقي لمعادلة أن الارتقاء على تدني الواقع والارتفاع عن منغصاته والتسامي على غرائبيته، سيساوي فاعلية عودة الوطن الى أهله ولاستحالة تحقق هذا الامر فان ما ستؤول اليه نهاية الرواية سيغدو على خلاف ما هو متوقع تماما.

واذا كان هذا الارتقاء محض خيال؛ فان مجازية عودته انما هي عود بالأهل الى مكان يتسم بالسمو والعلو ممثلا بالوطن كقيمة روحية مقدسة ليختلطا مع بعض اختلاطا لا يعود ممكنا معه التمييز بين البدء والختام انها دائرة تعود من حيث ابتدأت وتبدأ من حيث انتهت، انها دورة الحياة التي بدايتها ذهاب وخاتمتها عودة بغض النظر عن طبيعة المحددات المكانية.

وبذلك تتوالد الثنائيات المتضادة التي بها تتحقق الحياة ارتحالا وعودا قبولا او رفضا، غيابا او حضورا، عجائبية او مألوفية، بوحا وصمتا، علوا ودنوا، وطنا ومنفى.

وقد جاء الاهداء( قلب يسكنه الفقر، قلب تسكنه المدينة، قلب تسكنه الفأس، سكني بهذا الثقب أيها الصاعق سآوي إليك) مبنيا على ثلاثة معطيات تخييلية تمثلها الرغبة في التوطن والاستقرار بحثا عن الالفة والامان دفعا لفاقة العوز والحرمان وقد ساندت هذه المعطيات وتيرة صوتية مصدرها تكرار صوت القاف بما يحمله من دلالات الاجهار والقوة ليحصل تآلف صوتي ودلالي معا، كما ان تذييل الاهداء باسم الروائية وفاء وفصل حروفه وترتيبها بشكل عمودي انما يدلل على الرغبة اللاوعية في اتخاذ الكتابة وسيلة للتحرر واعلانا عن الهوية بلا موانع وتجاوزا للممنوعات بلا مداراة ورفضا للخوف والخجل والانطواء. او لعله رغبة دفينة في إثبات كينونة الانثى بشكل عمودي وعميق مهيمنة على الآخر افقيا مسطحة اياه سرديا.

وبذلك يحقق الإهداء وظيفته ليكون بمثابة توطئة واستشراف لما سيتم تحصيله من قراءة المتن الروائي كله كما غدا عتبة مناصية ملائمة لتحقيق المكاشفة التي هي الهدف المركزي الذي سعت الرواية الى تحقيقه متنا وهامشا.

وهي اذ لم ترقم فصول الرواية فإن في ذلك بعدا اشاريا ان الاحداث لن تعرض تنضيدا او تتابعا بل ستقفز وتتناوب ومن ثم لن تكون هناك حاجة للأرقام وان ما عضد هذا الاشتغال الما قبل سردي المناصات التي هي عبارة عن استدعاءات لعبارات شاعرية لتكون بمثابة تنبيهات اشارية لانتهاء مرحلة سردية وابتداء اخرى اولا وكعنوانات فرعية تتمارى فيها العنونة الرئيسة اخرا .

وقد نجد في بعض مناصات العنوانات الفرعية انها لا تكثف محتوى الفصل بل تكون مجرد بحثٍ عن افق على مستوى الترميز كما في عنوان الفصل الثاني الذي عرض فكرة اللون حيث الذات تتجمد في لوحة فنية وقد يماثل هذا ما رسمه القدر لمستقبل وليد منذ دخوله كلية الفنون الجميلة وعشقه لعلية ..

وقد نجد في بعض المناصات حضورا لافتا للطبيعة كعنصر مادي يكمل العنصر الوجداني وكتعبير معنوي عن الاحاسيس الشعورية للذات المؤنثة فـالمفردات(الغصن واللون والسماء والبحر والروح والريح والقلب والاشجار) هي مداخل تعبيرية تتعالق كتابيا مع المتن المعنون مفضية الى متاهات وتداعيات موضوعية دالة على طبيعة الاحداث التي ستتوالى تباعا.

ومن ذلك ايضا ان مناص الفصل الاول واجه القارئ بعنوان(غصن تدلى من اطار) ثم اتبعه باستفهام تهكمي متعالق تناصيا مع مقطع شعري لادونيس( ما تكون الذات التي تحيا في آن ضحية وجلادا؟)

وما بين دلالة الغصن الطبيعية التي فيها معاني النماء والارتقاء والتجدد وما بين الذات في دلالتها الحيوية على الشخصنة والفردية تتلاقي مقصدية التبلور والظهور والانكشاف لنعلم مسبقا أن المتن السردي الذي سينضوي تحت هذه المدخلية النصية انما يتمحور حول لوحة فنية اشتركت في صنعها الطبيعة والذات معا وقد استمدت الثانية من الاولى هويتها الابداعية.

وتستقطب هذه اللوحة الفنية كل من رآها بسبب ما حوته في داخلها من انزياح اشاري مثَله الغصن الذي تدلى من الإطار ودلالته الرمزية على ذلك الكيان الذي شذَّ عن ذاتيته المتخيلة ليتحول كيانا متجسدا في العامل والموضوع معا.

وجاء الفصل الثالث تحت عنوان صادم( اكتشاف ابليس) متبوعا بحكمة في صيغة استعارية( نحن حقيقة عارية وهم عراة بلا حقيقة) لتتم معادلة جديدة فيها انثيالات من اسئلة شتى من قبيل: هل الالوان هي الحقيقة أم أن الحقيقة نفسها مزيفة في ألوان؟

وقد تختصر الكاتبة الحياة في فلسفة توجزها بجملة شعرية(بحر يتسع في اصبع التلفاز اسفنجة تمتص طالع الحقيقة) وتختارها عنوانا للفصل الخامس وتذيلها باسمها (وفاء).

وحمل احد الفصول العنوان الذي اختير ليكون عنوان الرواية الرئيس فالسماء تعود الى اهلها وتذيلها الكاتبة باسمها وقبله اسطر شعرية هي: ( اوراق الحرب/ تلعب بذكاء/ والغامض مؤيد/ لا لزوم للتسرع/ ايها الحلم الاصفر)

ثم تتبع ذلك باستهلال حكمي مأخوذ من قول لطاغور( انا طريق تصغي في صمت الليل الى خُطا الذكريات) مشفرة الرسالة التي ارادت توصيلها الى قراء روايتها وخلاصتها محصورة زمانيا بين ماضٍ سوداوي وبين تجليات واقع مأساوي يظل مستقبله مجهولا دوما وغامضا..

وحمل الفصل الاخير عنوان( فصل الروح عن الجسد) كدلالة مأساوية على نهاية بطلة مناضلة يحكم عليها بالموت ليكون ذلك الحكم حتما مقضيا" لا اعرف في أية أرض سيتحول جسدي الى نفط" وتذيل العبارة بوفاء لتؤكد واقعية القصة التي يكمل اولها ما انتهى اليه آخرها.

وبذلك تكشف لنا الكاتبة عن مفارقة الواقع المعيش الذي بدا اغرب من الخيال بل هو الجنون من خلال تذييل شاعري تختتم به الرواية ليتبين لنا انها لم تستحث خيالها للكتابة بعد ولكن ما دونته كان من انثيالات الذاكرة في ما يشبه التداعي اللاشعوري" للعاقل ذاكرة مجنون وللجفون تكوين البدء على فنتازيا الخيال المعجون بدم الواقع "

ويتلاقى هذا مع دلالة العنوان الرئيس فكون المبتدأ السماء فان افول الاهل نحو السماء هو نهاية المشوار او ان الواقع بغرائبيته يعود الى الخيال كما ان الخيال يمكن ان يستمد مادته من الواقع بلا مشقة وما ذلك الا لكونهما قد اختلاطا وتفاعلا حتى ما عاد ممكنا التمييز بينهما بدءاً وختاماً.

انها دائرة تعود من حيث ابتدأت انها دورة الحياة التي خاتمتها الموت الذي به الحياة ليغدو الغياب هو الحضور والعجيب هو المألوف والبوح هو الصمت والسماء هي الارض والوطن هو المنفى وبهذه التضادات الثنائية تتجسد الحياة سماءً وأرضا.

ثانيا / الهيمنة تشظيا واقصاءً على مستوى السرد

يقوم السرد في الرواية على نسق التناوب أي سرد اجزاء من قصة ثم اجزاء من قصة اخرى باعتماد البناء الدائري بمعنى" ان الاحداث تبدأ من نقطة ما ثم تعود في النهاية الى النقطة نفسها التي بدأت منها، وقد أدت شخصية (راوية) دور الساردة التي سبرت أغوار الشخصيات الاخرى وهي عارفة بالأحداث في وحدتها الموضوعية والفنية وتحولاتها الزمانية والمكانية.

ولم يعد وليد الشخصية الغامضة بالنسبة لها والمؤثرة فيها؛ بل غدا مجرد عنصر هامشي معروض أمامها على حقيقته واضعا مصيره بيدها.

وقد ضمنت المرأة لنفسها احتلال بؤرة الاحداث لتكون مركزية في قدرتها على التغيير ماسكة زمام السرد لتطوعه بحسب ما تراه صالحا لها ولمجتمعها مفككة الرؤية التقليدية للمرأة كموضوع ادبي اثير مما ظل ملازمة لها على امتداد تاريخ الادب العالمي" اكشط عن اوراقي كلمات قديمة واكتب ذكريات احبُّ اليَّ من كل احبار الحروف واقرَبُ الى نفسي تفضل لنجلس سأبدأ من كلمة كنتُ"

وبسبب هذا الفهم الجديد لكينونتها تغيرت وظيفتها في الحياة فانطوت على متطلبات مجتمعية لها صلة وثيقة بالوطن والانتماء والخلاص والحرية.. ووراء ذلك ميل خفي ورغبة نسائية لا شعورية في السطوة والهيمنة والسيادة على الواقع والخيال معا.. الى درجة ان المفردات المؤنثة لا ترد عندها الا في موضع الامل والانتصار في حين ان المفردات المذكرة لا ترد الا في موضع الخيبة والخسارة والحرب حسب..

كما تعاضد الخارج نصي/العنونة الفرعية مع الداخل نصي/المتن في اثبات ان الهيمنة السردية هي نسائية خالصة فالمرأة التي هي كيان مرسوم ليست شبحا متخيل الوجود بل هي كيان متجسد واقعي الحضور وهي في كلتا الحالتين شفرة سردية باحثة عن نموذج نسائي ايجابي يتمثل في امرأة تتمتع بمقومات التحدي نافضة عنها التبعية كونها ليست أُلعوبة بيد الاخر..

والهيمنة عبارة عن وظيفة تنهض بحملها احدى ادوات السرد لتكون ممثلة لوجهة النظر المركزية في بناء رواية ما، وكاشفة عن رؤية الروائي وتصوره إلى حد بعيد

وأول مظهر من مظاهر الهيمنة على مستوى السرد نقض ما اسسته الميثولوجيات من تبعية المرأة للآخر خارقة بنيتها ومنها اسطورة بجماليون التي استدعيت لتحكي قصة العاشقة التي ضحت بحبها من اجل الاخر منكرة ذاتها ومالكة قرارها في ظل العلاقة الجدلية بين الفنان ومجتمعه.

وعندذاك فان الرجل لن يكون مهيمنا على المرأة ليرسم لها الطريق الذي يرتضيه لها؛ بل هي التي ترسم له طريقه.. ويتجلى التحول في الحبكة السردية بشكل أدق متناصا مع التمثال الانثوي جالاثيا التي هي صنيعة بجماليون التي جسدتها الشقراء ذكرى بعد ان اغوت وليدا ودفعته الى قبول طلبها ليمنحها والسمراء اثني عشر يوما على ان تعودا قبل تمام الساعة الثانية عشرة ليلا اذ سيتم العرض بعد ثلاثة عشر يوما فوافقت كلتاهما ..

وفي هذا تعالق سردي مع قصة سندريلا ممثلا بالمدة الزمنية للتحول السحري الذي سيفقد سحريته بعدها ليعود كل شيء الى حاله حيث تفارق السمراء الواقع تاركة فردة حذائها عند محمود" ارتبك محمود متعثرا استوقفته اشارة عبور المشاة بينما عيناء عبرت الى الجانب الثاني من الشارع وغابت في لمح البصر"

وفي ظل عالم واقعي تصطدمان بما فيه من تزييف ومخاتلة فالناس مراؤون وكاذبون وانانيون تقرر المرأتان العودة الى وليد بملء ارادتهما مفضلتين الحبس في اطار اللوحة على حرية الواقع الزائف.

ومن هنا فان عودتهما لم تكن رهنا بوليد بل كانت رهنا بالواقع الذي لم يكن بمستوى طموحهما فلم يعجبهما، حتى بدا لهما ان عالم اللوحة الداخلي خير من الواقع الخارجي وبقيت الدمعة الحائرة هي خلاصة استكشافهما له .

فهل كانت لوليد من وراء هذه الصفقة رغبة متدارية او لا واعية في استحواذ الانثى عليه بعد ان وقع في عشقها ليكون هذا العشق هو السبب في تحطيمه ؟!!.

ولعل الاجابة بنعم ستبرر لنا انقلاب الكاتبة على نموذج بجماليون الفنان الهائم الذي اغرم" بجمال تمثال من صنعه فرجا افروديت ان يتزوج من امرأة تشبه التمثال ففعلت اكثر من ذلك اذ وهبت التمثال نفسه الحياة عقابا له على اعراضه عن الزواج .. وينفر منها حين يراها تزاول اعمال البيت وتحمل المكنسة فتبتعد بعملها هذا عن صورتها المثالية التي رسمها في ذهنه حين كانت تمثل الجمال الخالص ويثور الفنان على رؤية المرأة في صورتها الواقعية فيدعو الاله ان يردها تمثالا عاجيا كما كانت ثم ينهال على رأسها بالمكنسةفاذا كان بجماليون لا يرى المرأة الا كرمز للجمال المثالي فان وليدا رأى جمال امرأة اللوحة الشقراء جمالا جسديا مغويا فوقع في نهاية المطاف في حبائلها متغاضيا عن حب السمراء له مهشما كينونته وفاقدا من ثم هويته مصطدما بإشكالية العلاقة بين المثال والواقع.

ولا غرو ان تؤدي الشخصيات النسوية الاخرى أدوارا ثانوية مشابهة، ليكن فاعلات وحيويات بالقوة نفسها التي كانت عليها الشخصية الرئيسة/ راوية، فعيناء الانثى السمراء ذات الرداء الاحمر قد اغرمت بوليد وهي لذلك ليست مصدر الغواية؛ بل هي كينونة رومانسية تجسد فيها الحب المثالي، اما ذكرى الشقراء بالثوب الازرق فأنها تمثل الصورة المألوفة للمرأة كمصدر للغواية والخطيئة.. كونها كينونة واقعية نفعية ووصولية.

اما الشخصيات الذكورية فقد كانت ثانوية بحيوية تجعلها سلبية لا تظهر الا في موضع الضعف والاستلاب والخسارة وهذه هي الهيمنة الثالثة للمرأة. ويبقى وليد مجرد قطعة من اثاث وخريطة بلا ورق يعجز عن صنع امراته الافتراضية التي بحث عنها فلم يجدها في الواقع ويشاكله في ذلك رجال السجن فجميعهم ساديون وسلبيون ومحمود مرائي ومخادع ومغو وفرقد لم يمتلك الا بعض مقومات القوة ولولا ذكاء راوية لما استطاع القيام بأي تغيير.

وقد اسهم توظيف تقانة التغريب في تمويه الحقيقة وتقديمها في صيغة واقعية مفارقة للمنطقية وهو ما منح الرواية بعدا واقعيا سحريا تمثل في ولوج متاهة العالم الفانتازي الاستيهامي لامرأتي اللوحة اذ تحولتا من هيأة جامدة لا حياة فيها الى انسيتين تنطقان وتتحركان وتشعران.

وعلى الرغم من اختلافهما المبدئي في فهم الحقيقة الانسانية الا انهما كانتا تؤديان دورا مركزيا في رؤيتهما للرجل كضحية وهذا ما تبادر الشقراء الى فهمه فواقعية المرأة في الحياة تنحصر بحسب رؤيتها في لعبها دور الغواية لا غير في حين ظلت السمراء مقتنعة بطريقة سريالية بعالم وليد المثالي مسترجعة كلماته التي حفظها عن جبران خليل جبران وعبارات المسيح ..

ولكون هذه الذات تتشظى الى كيانين مؤنثين الاول يرمز للمرأة الغربية والاخر يرمز للمرأة الشرقية فان سبب التشظي انما يكمن في( وليد) الفنان الذي في دلالة اسمه امارات الخلق والصنع والتكوين والذي اودع في احدى الصورتين دمعة جذبت اهتمام زائري المعرض الذين راحوا يتساءلون عن سر جمال هذه الدمعة.. وما ذلك الا لكون" شخصية الخالق اكثر غنى من مخلوقاته وهو اذ يبدعها يهيئ نفسه لإبداعات جديدة " .

وتنحصر المفارقة في أن الكيانين اللذين لم يعودا مجرد تابعين قد صارا فاعلين لهما السيادة وهذا ما جعلهما تفلتان من قبضة وليد وتتحرران من سيطرته بعد ان عقدتا معه صفقة سرية لان الذي منحهما التجسيد بالألوان هو وحده القادر على ان يمنحهما حريتهما مقابل ان تعودا اليه بعد زمن فكان ذلك لهما اذ صارا كيانا مؤنثا وحقيقة ماثلة لا متخيلة وواقعة حاصلة لا متوهمة.

ولعل وليدا الذي عاش واقعا مريرا ظل يطمح الى فهم مثالي للحياة وهذا هو ما جعله يودع في لوحته سرا خفيا لن تكشفه الا مكونات لوحته النسائية التي سيطرت على حواسه تاركة اياه تابعا لا متبوعا ومستولية على جوارحه لتنتقل به من اجواء واقع مر الى عالم متخيل ذي اجواء رومانسية فاعتقد انها تناديه خالصة له وحده وانها معبودته وصنيعته التي استحوذت عليه" ها هي حواء تحتل الصدارة بهذا الحماس بيقي متفرجا احيانا ومبتسما ابتسامة المتفائل ريشته ما عادت تسخر منه...رعشة النظرة المتوسلة بحبيب يجهل اضاميم باقات العشق قولها له تعال وعش معي في كوني وهواي كل هذا يعني ان ريشته موج أناشيد من غزل ترجمت صمتا تعرق في ملامح امرأة ذات جمال خاص انه صمت باني يتهدج داخل الروح"

والحقيقة ان اللوحة غلبته وان مصيره سيبقى مرهونا بالمرأة السمراء التي منحها نظرة مترددة متوسلة راعشة واسمها عيناء وهي بردائها الاحمر قد ادمت اصابع وليد وجعلت اعصابه تضطرب في كل جزء منها" في حياة كل فنان امرأة واحدة وعدة عشيقات امرأة هي حياته لتكن ما تكون وان صورة وهمية من بنات افكاره. المهم بصمتها في روحه وروحه في إطار"

ولانها عشقته بكل معنى الكلمة لذلك تسامحه على خطيئته تجاهها ويبقى خياله يطاردها وترغب ان تكون حقيقة لا صورة" هو من رسمها هو من جعلها ممتلئة وصبغ شعرها بالسواد كما صبغ قلبها بالمه هو خالقها وخالق مفاتنها و خطؤها اذن وهو ذنبها وغفرانها "

واما المراة الشقراء فاسمها ذكرى وكان وليد هائما بها" الله يا شقرائي ادفع عمري كله مالي سعادتي رضاي وزعلي نومي ويقظتي من اجل نظرة رضا من عينيك"

وقد جعلها متحدية وشجاعة من خلال نظرتها المحدقة الى المجهول بثقة" كما لو أنها مغروسة بنار خطت كحلتها ريشة صداحة ..هاجس الفوز يزيده توهجا "

والى جانب هذه الهيمنة التي فرضها هذان العنصران النسويان المتخيلان اللذان تقاسما مساحة اللوحة باللونين الاحمر والازرق؛ فان هناك هيمنة نسائية واقعية مصدرها خارج اللوحة تتمثل في المرأة الزائرة للمعرض والتي ستدلل الاحداث على انها الكاتبة وفاء عبد الرزاق نفسها.

وقد اعطت لنفسها الحق في أن تقدم نقدا تشكيليا يصف براعة اللوحة وقد اطلقت عليها( لوحة البحر) وتصفها بانها عبقرية الفنان وان فيها رواسب اعماق استاذ وليد

وان ما يجذبها في اللوحة هي المرأة السمراء" كانت ترى ذات الرداء الاحمر كغصن تأرجح من اطاروهو ذات الوصف الذي اختارته الكاتبة كعنوان للفصل في دلالة مشفرة أن راوية هي وفاء.

وبوصفها ساردة عليمة ومراقبة لذلك تدخل الى بواطن عيناء لتكشف لنا اسرار عشقها" كان يقبلها قبل ان تكتمل في يديه يقبلها ..اختلاط الضوء بالعتمة على ثوبها الاصفر بينما انين امرأة من تكوينه عشقته من اللمسة الاولى من النقطة الصفر شكوكها توددها ثورتها وانتظارها غضبها الصامت وصمتها الغضوب الاحتياطي من الصبر الذي استنفدته في خلق اعذار لخطيئته ..اندماجه باللاوعي الفني استعادته لوعيه نومه صحوته خروجه من دورته الدموية في مدحه شقراء ذات قلب عاقر لا ينجب حبا كحبها "

وليس غريبا ان جلُّ دور وليد انما تلخص في أنه امد الكيان الانثوي بالحياة والحضور والمركزية ولم يعد له على الصعيد السردي الا دور هامشي محدود .

ولأنه ما عاد الا كينونة مؤسلبة منهزمة من نفسها لذلك جعلته الكاتبة مبتور الذراع عليه امارات الانهاك والرضوخ والهجر والجدب والعوق بذاكرة معطلة وبانتماء حزبي غابر سرق منه الكثير وفاته من عمره زمن كبير.

وهو الذي انحدر من اسرة معدمة من جنوب العراق لم يستمتع ببراءة الطفولة ولم يظفر بحلمه في لوحة رسمها ذات يوم لعلية الصبية التي وجد فيها القسيم الروحي لأحلامه .

ولا غرو عندئذ ان تمارس النسوية دور العامل والموضوع فالكاتبة هي نفسها الساردة الذات الثانية لوفاء ومن ثم لا نجانب الصواب اذا قلنا ان لا فاصل" بين المرأة بوصفها موضوعا والمرأة بوصفها عنصرا اساسيا من عناصر البناء للنص القصصي" .

وسيغدو الحضور النسوي هو الواجهة الخلفية لماضوية فحولية وتظل النساء تتطلع الى مستقبل يقلب مركزية الاخر لصالح المرأة كي تتسيد فتكون لها وحدها الكلمة الطولى .

ومن تبعات هذه السيادة ان مفهوم الابوة الذي ظل مقدسا في ظل الذكورية سيتم الانقلاب عليه وتفكيكه متيحا للأمومة ان تخترق اسوار الابوية كاندماج تلقائي بحاضر الادب النسائي الذي لن يتوانى عن تمويه مسلمات الابوية بجذورها الضاربة في الادب دهرا طويلا مهرئا قيمها الواهية ومدنسا ما ظل منها مبجلا ناقضا" المضامين التي فرضت نفسها بقوة على الادب العالمي منذ بداياته الاولى.. وفي المآسي الاغريقية برز الاب كشخصية ذات جوانب خصبة تنبع منها شتى الاحاسيس والانفعالات والدلالات الموحية" .

وما هذا التفكيك للابوية الا تهجين جنوسي غايته تحقيق الغلبة للمؤنث وتفتيت البنية الخطابية للمذكر وتفكيك هويته لينسحب الى منطقة الظل ككينونة متشظية وتابعة للآخر/ المؤنث .

وهذه المصادرة للمذكر واستلاب موقعه انما هو هدم لجزئيات وحدته وتشتيتا لها وضمانا اكيدا للحضور المؤنث على اعتبار ان المرأة متى ما احست" أنها بلغت مقدرة الروائي على تصوير سلوكها وفكرها فإنها أقدر منه على تجسيد كيان بنات جنسهاوهذا ما جعلها تعمل بفاعلية في المشهد السردي..

وما بين ماض غابر وحاضر قائم ترتسم علامات القادم وتبين هويته وتتحقق تنبؤات الضياع للكيان الذكوري انهزاما وتسطحا اذ سيغدو مجرد تاريخ ليس الا..!!

وهذا ما واجهه وليد في ذاكرته التي استرجعت ماضيا جميلا ينفر من حاضر أليم" استرجع الشهية الانثوية شوك عذب وخز لذيذ يصعد بين فخذيه ..شاهد علية نائمة ملتحفة شرشفا ابيض من راسها حتى اخمص قدميها ، اعاد ضوء الكاميرات الى واقعه شم رائحة فحيح يملا المكان ..لام غفلته على تواطئها مع الزمن ارتجفت يده اليمنى ورعش شيء تحت قميصه وصوبه نحو القلب شم رائحة تعفن يده اليسرى"

حتى غدا مزبلة في زنزانة فيها التعذيب جماعي يتجاوز حدود التابوات الانسانية والاستلاب مقزز وبوهيمي يتجاوز صنوف الرعب والعنف كلها" الفزع في السواد والزرقة والتورم وتفحم أصابع يسراه بعد اقتلاع الاظافير منها" .

وهذه الانثيالات التراجيدية التي عكست الما ممضا، قد جعلت وليدا يدرك استحالة البحث عن اليوتوبيا في ارض الوطن فقرر الهجرة بحثا عن ملاذ وتلك اولى بوادر الانهزام والعجز عن تغيير الواقع الذي صار في نظره محالا البتة.

فوجد في المنفى هروبا عن اداء دور البطولة وصارت الاسطورة ملاذا جماليا فيه المرأة هي المركز لا الهامش اما هو فمغيب ترك المجال للمؤنث لان يرتقي المشهدية الروائية كنسق متصاعد لا يعرف التواري ولا الاضمار.. وهو ما أدته (راوية) من خلال سرد استرجع البداية واصلا بنا الى الخاتمة التي فيها مبتدأ الرواية.. ليكون المؤنث حاضرا في السرد بقوة مغيِّبا الاخر بإرادته.

وما فاجأ وليدا هو ان راوية تعرف ما كان وما يكون بأسئلتها الجريئة" ما زلنا في مرحلة بتر الاطراف نحن بحاجة ماسة للتخلص من تراكمات كثيرة وما زال حاضرنا يضيف تراكماته حتى صرنا رتل تراكمات اقرب الى الرنين"

ومن الشخصيات الذكورية التي ظلت ثانوية وثابتة في نظرتها للمرأة كاستمرار للنظرة الفحولية شخصية محمود الذي لا تتعدى المرأة عنده ان تكون مجرد هامش على لوحة الحياة فهي كيان رومانسي مزخرف على السطر حسب.

وترمز هذه الشخصية الى الرجولة الشرقية التي لا ترى للمرأة حقا بل واجبا وهي في الذاكرة الغربية عن الشرق تختزل في الجسد والشهوة" المرأة السمراء تتمظهر شرقا شديد الفجور واحتمالات التدمير.. " اما المرأة البيضاء فرمز الذاكرة الشرقية عن الغرب الذي يختزل في الغواية والتنكيل والشيطنة والالغاء للآخر والتصفية والاقصاء" حنينها الاساس متجه نحو الذكر المهيمن والعنيف والطاغية ..والذكر سليل شيطان ملتن يمتلئ بالغواية والتنكيل في ان واحد جميل ومغر" .

ويكون صابر ومحفوظ على شاكلة محمود اذ لا فارق بينهم في نظرتهم الشرقية للمرأة ولهذا تقرر السمراء ان تنفر من رفيقتها بعد ان وصلت الى مفترق طرق وبدت الفوارق بينها وبين الشقراء لا مجال لتجاهلها او محوها لاسيما لعبها دور المومس الذي رفضته ففجت رأس المحفوظ بالمزهرية واستقلت الحافلة.

ولم يظفر محمود من ودِّه لامرأة اللوحة الا الحذاء على شكل استباق زمني تقدمه راوية لمحمود الذي فاجأه انها تعرف اسمه متهكمة منه كاشفة عما ينتظره" ارم الحذاء عنك. صاحبته لن تعود "

ومقابل هذا الاستباق يأتي استرجاع مزجي بين زمن ماض واخر حاضر والغرض مقارنة حال المؤنث ما بين طفولة هي بالنسبة للرجولة شهوانية غريبة وما بين امرأة لا تتعدى ان تكون لوحة دون اسم. وثمنها مرهون بما يترشح عنها تجمع الفرح والحزن والشعر الاسود والاشقر والدمعة الحائرة .

والعشق هو أساس التداعي النفسي الشعوري تنازلا عن اداء دور البطولة للآخر اقتناعا بأن المرأة هي وحدها التي جعلت وليدا يبوح بذلك السر الذي ظل يداريه في دواخله" من خلال العشق نتمرد نصلي ونعصي نجلد ونفقد أعضاءنا ولكل عصيان ثمن"

وهذه المكاشفة تدفع راوية إلى البوح ما جعل وليدا يخاف منها ويظنها جاسوسا او شرطيا متنقلا مستعيدا اوقاتا قاهرة قضاها في سجن الوطن وقد تراءى له الموت الما وعجزا واوقاتا يعيشها في حرية لندن ..

ولأنها تستبق الاحداث لذلك هي قادرة على استبطان دواخل وليد ومشاعره كما تعرف بواطن عيناء وعشقها لوليد وبواطن محمود وعشقه لعيناء" ليت وليدا يعرف كيف استوطن في قلب عيناء وليت عيناء تشعر بوجودها في قلب محمود"

كما تستبق ما ستواجهه المرأتان السمراء والشقراء من تحديات واقع يجعلهما تخوضان فيه وتقدمان بوحا جسورا لمتناقضات الواقع الهش، فعلى الرغم من انهما كانتا متفقتين في ابرامهما الاتفاق مع وليد الا انهما تضادتا في قرارهما بإزاء تجربة العيش في المجتمع الادمي والاندماج به.

فبينما كانت السمراء راغبة بوليد تهمها استكشافها لملامحه واقواله نجد ان الشقراء كانت تبحث عن الاغراءات الحياتية المادية تختار ما تريد وليس لوليد وصاية عليها.

وما بين عشق وليد شقراء اللوحة وتناسيه عشق السمراء اللامتناهي له تجتمع المتناقضات كالبغاء/الشرف والامانة /الخيانة والعشق /القرف" حتى ضاعت مفاهيم الخيانة ابتداء من الجسد وانتهاء بالوطن لم نعد نعرف تنقل الرجل من امرأة الى اخرى أهو أحقية له وحده منحتنها له رجولته ام هي طبيعة البشر؟ كيف لامرأة قدرة على هوى عدة رجال في ان واحد تجمع الرجال وتكدسهم كتكديس المجوهرات ؟ "

وانطلاقا من الوداعة الانثوية التي امتازت بها راوية والتي جعلتها تتأمل الشخصية وتحاورها فإنها قدمت كشفا عاطفيا واست به عيناء مستبدلة السرد بضمير الغياب بالسرد بضمير الخطاب وهذا ما جعل" السرد قطعة طويلة من المناجاة النفسية .. يعزز من ايهام القارئ بان الاحداث تدور في الحاضرلكي تضمد جراحات عيناء ودمعتها التي أتاحت لها الفوز بجائزة المعرض في استباق زماني تتلاقى فيه المرأتان الساردة والمسرودة( راوية وعيناء) وفي لحظة لقائهما هذه تفاصيل مشهدية ستعود في ما بعد لتعرضها على مهل

وسبب هذا التلاقي الاستباقي هو رغبة دفينة داخل راوية تجعلها تجد في عيناء قسيمتها في مداراة صراع داخلي مفاده الكرامة التي تتجلى في دمعة بريئة ووجه طفولي وبشرة سمراء تدلل على أصل منبتها الشرقي واوصافها " تابعت شعرها الاسود خصلة خصرها الذي اطبق عليه ورك شرقي وجعله كغصن يلتوي من ثقل ثماره ..سقطت على خدها دمعة دون قصد منها هكذا خرجت نافرة من حرارة جفن ظليل حتى كادت راوية ان تشم رائحة تلك الدمعة لم تكن دمعة نافرة بل طفلة في حضن العمر"

ولأجل ان تتمكن الذات من البوح نيابة عن الاخر بجرأة وعمق متجاوزة المحظورات فإنها تأخذ بالمكاشفة من خلال خطين زمانيين استرجاعيين:

الخط الاول/ يتعلق بالبلوغ والنضوج كاشفة عن خلجات نفس وليد وما اعتراه من مشاعر حين نضج وبلغ سن المراهقة بعد ان اقترن ذلك البلوغ بعشقه لعلية ابنة الجيران" وقت تعرفه على جسده وهمهمات رجولته تخترق نومه ويقظته يغتسل منها صباحا وتغويه رغما عنه يلوذ بمكان بعيد عن اعين الرائحين والغادين يأخذ ركنا تحت شجرة توت ويتعامل مع الذي يخترق دشداشته فاضحا برطوبته الدافئة احتياجه لانثى"

ويصبح التنظيم الحزبي نوعا من مداراة الانهزام العاطفي من علية معوضا خسارته التي تولدت لحظة رؤيته لها" تنزل من سيارة مرسيدس خصوصي سوداء ثلاثة اولاد صعدوا على واجهة السيارة وبقية الاطفال يحومون حولها كانت علية تحمل بيدها طفلة تشبهها تماما وعندما جاءت عينه بعينها اطرقت ارضا وطلبت من زوجها ان يحمل عنها الطفلة"

وارتباطه بالحزب اوصله الى السجن والتعذيب حتى خرج منه بنصف مبتور ويد متعبة متوجها إلى سوريا وعند ذاك أراد أن ينسى" وليد معذب وليد مجتث من ماضيه وحاضره مغطى بشراشف الحزب السوداء والجلد للروح كي لا يصل ارتجافها لذاته"

وما صراعه الداخلي مع هذا الشعور ومع القيم وما توارثه من اعراف الا تراكمات واقع قاس جعلت منه مغتربا بشعور الحب الخائب.

ولا مفر ان تجعل كل تلك الخيبات من وليد مؤسلبا بطاقة مكبوتة وحلم ضائع ولما يأتي لندن يلاقي غربة من نوع اخر حيث الاخر يبحث عن ادميته وهنا يستذكر حادثة مماثلة شعر فيها ايضا بانه يبحث عن ادميته عندما فكر مع نفسه هل ما زال رجلا ام انه امرأة؟!! عبر مونولوجات داخلية تأمل فيها ذاته ورأى فشله وكيفية تحوله الى خنثى عاجزة.

الخط الثاني/ يتمثل في مكاشفة الاحساس بالاغتراب المكاني" اذ تتحول الاقفاص من سجن الى ثكنة عسكرية ثم الى ملاجئ لإحالة الجسد الى التقاعد والعقل الى التلصص على حقيقة كانت من نوافذ لا تسمع ولا تفهم معنى أغنية نخل السماوة يقول طرتني سمرة"

وهو يصف الغربة في داخل الوطن بانها شعور يهيمن على الفرد فيتركه ركاما" هي شعورك بنفس يصعد ويهبط في صدرك وهو غريب عليك هذه الغربة الأعتى والاشمل "

وحتى لما غادر الى لندن ظل شعوره بالاغتراب عن المكان يرافقه" يحوك عزلته في غربة نفسه مجموعة لوحات تنتظر من يعرفها او يستكشف ببياضها مجاميع من الاماني لا وقت لها الان ولا محل لها في ركن من الحياة "

وتراهن الساردة على ان وراء هذا الاغتراب امرأتين اثرتا في حياة وليد واحدة في الوطن تجسدت في علية التي فشل في الاقتران بها فكانت عائقا اثَّر عليه فصار هامشيا غير قادر على التغيير مستسلما وخانعا، بلا ادنى مقاومة انه حي وميت معا..

وكلما مرَّ في ذهنه شكل امرأة تذكر علية كقديسة ومثال لا تبلغه انثى غيرها ولا يجد حوله الا فراغا ويبقى اللون هو عزاؤه الذي يشعره بانه ما زال موجودا" يفرك عينيه باحثا عن لون يبرهن لنفسه انه ما زال يتنفسها ويشم رائحتها : تعالي تعالي يا عليه تعالي ولو في الحلم "

والمرأة الاخرى تجسدت له في المنفى مثالا لا وجود له الا في الالوان واللوحات افتراضا ليس له حقيقة تفسره، وهذا ما اشعره بحالة عدم الاستواء مع داخله" وقف امام المرآة في مدخل الشقة تفحص عينيه المحمرتين ثم اشار بأصبعه نعم ما زلت وليدا الذي عرفته وليد بائع النفط وليد الرسام وليد الذي لم يساوم. انتبه فجأة ووليد النصف وتريد ان تهواك امرأة "

ويبقى وليد مجرد قطعة من اثاث وخريطة بلا ورق غير قادر على ان يرسم لنفسه مستقبلا" رآها بالقرب منه تسيل نظراتها عليه التصق بها ورشه على عنقها اقترب من شحمة اذنها وقبلها عليها اشتعل مصباح جسده احتاج لاحتراق سمع صوت المطر وهو يعانق الاشجار ابعد عنه سطوة الجسد لكن رائحة الانثى اتجهت صوبه "

وبتر يد وليد اليمنى انما هو ترميز ارادت منه الساردة ان تدلل انه لم يظفر بهذه المرأة مثالا وواقعا وهذا ما زاد من لوعته واحتقار نفسه.

وتجعله هذه المعاناة يصارع تحديا مع فرشاته فيتكلم بضمير الانا كتحول نوعي معلنا عن تمرده على الركون والاستكانة والاستسلام ليصنع كيانين انثويين احدهما حورية امرأة سمراء افتراضية عجز ان يجدها في الواقع" امرأة هي غايتي وجرحي العابث باللذةانها صيحة تعري الحياة، والاخرى مومس شقراء يجد فيها ما يبحث عنه من اللذة" شقراء ضمن راسه بين نهديها دارت به دوامة مومس مرر اصبعه بين نهدي الشقراء بينما السمراء ظلت تراقبه وعيناها تكادان تأكلانه"

وكلا الكيانين يصبان في مصبات جسده فالشقراء كيان اغرائي بينما الاخرى كيان رامز للغيرة وهذا الاندماج بين الصانع والمصنوع يغيبه في الحلم ليرى اللوحة تتكلم فيغمره هاجس نفسي بوجود انثى حوله لكنها أنثى من ألوان الاولى سمراء ذات رداء احمر مغرمة بوليد والاخرى شقراء بثوب ازرق غاوية لوليد كخطيئة ولكي يتم التحقق الكامل لهذا التمويه الخيالي فانهما تطلبان منه ان يعقد معهما اتفاقا وهو ان يمنحهما الحرية لتكون هذه القصة مضمنة في قصة اطارية بطلتها راوية الساردة التي يكون بحثها عن الحرية ايضا السبب في دفع الثمن بقسوة والم حتى انها ورغبة في مدارة المها ترجو ان تتناول حبا لمنع الوطن

وهذا نوع من التضمين الذي" يقوم على اساس نشوء قصص كثيرة في اطار قصة قصيرة واحدةمطعما القصة الاصلية بالقصة الضمنية لتعود القصة المضمنة الى تكملة قصة راوية وهي في السجن عندما تتم مساومتها بكتابة الشعر ما قابل نيل حريتها وتدفعها الماسي المستمرة داخل السجن الى القبول" زجزني في السجن بحجة اني لم اكتب شعرا يمجد الرئيس ..كان حلم لقائي بولدي وزوجي هو خبزي في زنزانة ضيقة"

ثم تواصل راوية سرد قصتها مسترجعة ذكريات الواقع المر في المعتقلات والمشاهد المرعبة عما لاقته من صنوف التعذيب محاورة عيناء مؤدية دور المسرود الذي تسرد قصته من قبل راوٍ مراقب يتكلم نيابة عنها تارة وقد يسند لها مهمة الحوار بشكل حر وغير مباشر تارة اخرى" في الليلة ذاتها رقت بدمائها قربي كانت عيناها محدقتين في السقف تحجرت ملامحها وتصلبت صمتها عذبني لم اقدر على مساعدتها "

وما ان اوغلت في المأساة حتى اخذ الواقع يقترب من نهاية المأساة وان نجاتها ستكون على يد امرأة ايضا تعيد اليها الامل بعد ان تلاشت امكانية وجود فارس يمتطي صهوة جواد ليمنحها الحرية الانسانية.

وهذه المرأة تبدو على هياة استيهام عجائبي يتجسد في عشتار التي كان صراعها مع تموز صراع الذكر والانثى لتغدو الانثى سيدة المشهد" خرجت امرأة من وسط الحشد اتجهت صوبي خفضت راسها من التاج الجميل عرفت انها عشتار فقد كنت اتوقعها زينب اخت الحسين اشارت الى الحشد ان يمارس طقسه في تلك اللحظة اعانني صوتي ." لكنها ليست عشتار التي تندب تموزا بل راوية تندب الوطن" انت تندبين على تموزك اما انا فلم اندب لاني اقوى منك اموت فداء لمن احب ..لك موسم واحد للحياة ولي حياة ساهبها لعراقي الحبيب ليبقى ابد الدهر"

وتقتطع من ملحمة جلجامش نصوصا تضمنها في السرد كشفرات فيها تورية للرغبة العارمة في التسيد الانثوي ومقتا للصوت الذكوري في السرد لتغدو راوية هي شمخة المومس التي كان ينظر لها على انها من مخلفات المرأة المدانة وانها سبب الاغواء لكنها الان اصبحت هي المُديِنة لا المدانة فكما ان" فعل شمخة هو أنسنة انكيدو واخراجه من عالم الحيوان وتوسيع معرفته والرفع من درجة ذكائه كما تنص الملحمة.." فكذلك كانت راوية حفيدة شمخة التي انتصرت على خوفها" هل اعجبتك القصيدة سيدي واكملت انها بصوت جلجامش وصوت انكيدو صديقه لحظة موته كان صامتا خفت ان يستشف ما بين السطور تابعت صمته وسمعت انفاسي في انتظاري الرد"

ولهذا تغلبت على ضابط السجن مغادرة مشروعها الانثوي مؤقتا لتكتب باسم الرجل صانعة ديوانا بعنوان( لغز الانتظار)" اخذت القلم والارواق ورحت امتحن قدرتي الابداعية في خلق شفرتها وسأخبر المدير العفن اني امجده وسأجعله مثل جلجامش واتكلم بلسانه وابعده عن قصائد العشق ولو خاف سأوضح له اننا سنتكلم عن الظماء بصوت جلجامش وان اسلوب احضار التاريخ هو تورية لعظمتك ايضا سيدي"

ومن ثم تصل الرسالة التي شفرتها في الديوان الى رفيق لها قديم يعمل صحفيا في أجهزة السلطة اسمه فرقد الذي فهم الشفرة واسهم في اقناع الضابط بتمزيق ملفها ورميه في سلة المهملات ليتم اطلاق سراحها من الزنزانة معصوبة العينين وتسليمها الى زوج اختها الذي يتجه بها الى أطراف مدينة الديوانية وفرقد يتبعها بتخفٍ كشبح" هيئ لي اني شاهدت شبحا يصعد معنا في السيارة اصبحت ميتة ومفصولة عن جسدي ليته مات موت الجسد حين يتحلل ويصبح بترولا بينما موت الروح يرافقني يتتبع خطوي" .

وهذا العذاب الذي لاقته في السجن جعلها تفضل المنفى على الوطن فتقرر الخروج من العراق هربا من الواقع الاليم الذي افزع عيناء ايضا وجعلها تقرر ان سجنها في لوحة ارحم لها من العودة لهكذا واقع " كان الاجدى بي ان لا اعرض نفسي لعذابكم والا اوافق على خروجي مع ذكرى رغبت في رؤيتكم ورؤية واقعكم"

وتكون الخاتمة ان تمقت عيناء وذكرى الواقع وتلتزما بوعدهما لوليد بالعودة الى اللوحة الساعة الثانية عشرة لكن المفارقة ليست عودتهما الى اللوحة بل انتباه الفنان الى ان في عيني السمراء دموعا محبوسة" لمع سوداهما فاصبح كريستاليا تذكر انه لم يرسمها بها الشكل اطفا النور ليشاهد الدموع عثر على بريق اعمق من ذي قبل"

وقد تلاشت ثقة راوية بالكاتبة بعد ان وجدت "ان روايتها السماء تعود الى اهلها على ما يبدو انها لن تعود انه مجرد حلم " وهذه هي المفارقة الفنية التي انتهت اليها الاحداث فشعور راوية بان نجاتها من السجن هو انتصار لكل المعذبات من النساء انما هو مجرد شعور متخيل تجسد فنيا بالدمعة التي جذبت عدسات المصورين وكاميرات التلفاز" الاسئلة الصحفية والمقابلات كلها تدور حول صورة الفتاتين وبالأخص تلك الدمعة المخبوءة واتفق الجميع على انها موناليزا 2005"

وبذلك تغلبت صورة المرأة افتراضا على صورة المرأة واقعا لان الاولى بدت اكثر معقولية حين فضلت المواجهة على الانهزام بعكس الاخرى التي فضلت الانهزام على المواجهة فبدت طوباوية وهذا ما جعلها تقبع في الظل في حين ضمنت المرأة الافتراضية ان تبقى في دائرة الضوء كمركز يستقطب انظار الاخرين ويستولي على اهتمامهم وبذلك يتأكد تفوق الفن على الواقع لتكون في الفن استمرارية الحياة وتجددها وليس العكس.

ثالثا / الذات بين التشظي والهيمنة على مستوى القراءة

من مظاهر تشظي الذات على المستوى القرائي تبادل الادوار بين الذات المؤلفة/ وفاء عبد الرزاق والذات الثانية لها/ راوية التي تعرف نهج وفاء في الكتابة وكيف انها تترك لأبطالها حرية اختيار الاسلوب الفني وانها غالبا ما تحاور مسرودات قصصها كأصدقاء.

وهذا الكشف لأسرار الكتابة الروائية هو لعبة انثوية تتقنها الكاتبة لتتجاوز حدود السرد الى ما بعده محققة وظيفة تأويلية، صادمة أفق توقع القارئ كونها تقول له ان ما يكتب ما هو الا محض خيال وان الشخصيات مجرد ورق ارتصفت اسماؤهم على السطور..!!

وقد تتماهى الذات الكاتبة الحقيقية في الذات الساردة المتخيلة فلا تعود هناك خيوط فاصلة بين الاثنتين فما ذاقته وفاء عبد الرزاق هو نفسه ما كانت راوية قد قاست مراراته لتسرد قصتها لعيناء المتلقية لا المسرودة.

ولكن سرعان ما تدحض الكاتبة ذلك بما هو عكسي لتصرح أن ما كتبته ليس فيه خيال او تزويق بل هو الواقع نفسه وبذلك يتهشم الايهام الواقعي الذي هو أهم وظيفة يسعى كاتب الرواية الواقعية الى تحقيقه ولا مناص بعد ذلك ان يشير مبتدأ القصة الى ما سوف تنتهي اليه في آخرها" أتوقف هنا على حد الكتابة .. انها الكلمات يا وليد والطرقات هي الطرقات يا راوية لا اكتب خطا فيكم او اعمق الضوء فالحلم ما زال على الشجيرات الصغيرات تلعب به الريح فقط اعطيت يقين حبري لآخر قطرة " .

فهي لم تستحث خيالها في الكتابة بل ان ما دوّنته هو من تداعيات الذاكرة الحية حيث الواقع أغرب من الخيال او هو الجنون بعينه" للعاقل ذاكرة مجنون وللجفون تكوين البدء على فنتازيا الخيال المعجون بدم الواقع"

وهذا ما يسم النص السردي بالانفتاح كانعكاس منطقي للهوية المنفتحة ثقافيا التي هي نقيض الهوية المنغلقة او الهوية الممزقة

وبتنبيه ميتاسردي تنقل الكاتبة قارئها الى عالم التغريب محولة الالوان الى حقيقة جاعلة المرأتين في اللوحة مؤنسنتين تنطقان وتتحركان وتشعران بخروجهما من نطاق اللوحة الفنية وانهما نفسهما لم تكونا واثقتين من ذلك.

وحينما تقع الكاتبة في التماهي فإنها قد تفقد السيطرة على شخصياتها التي تمردت عليها لكي تستكشف السر الذي اخفته الكاتبة عن قرائها لتعلنه بمباشرة فاضحة الروائية مشظية دورها مخاتلة ومكاشفة بشكل لاشعوري لكونها تعرف كوامن نفسها وتستطيع من ثم استكشاف السر الذي تسعى الى توصيله بشكل خفي الى القراء.

وبدلا من ان تكشف الكاتبة للقراء عن بطلتها فان هذه البطلة هي التي تبادر إلى كشف الروائية للقراء " ألم اخبرك عن اسلوب وفاء عبد الرزاق في الكتابة ستجدين رواية داخل رواية ، هذا يعني انك بطلة من كلمات وقصتك في السجن اهي حقيقة ام من خيال الكاتبة؟

متجهة بالسرد نحو السيرذاتي مسترجعة ذكريات السجن في الوطن مستغرقة في مونولوجات مستبطنة لوعيها ومشاهد مرعبة للتعذيب الذي مورس ضدها والغاية استفزاز القارئ وصدمه بغية جعله مركزيا في العمل المقروء وسنمثل على بعض من ذلك بما يأتي:

1) ان الساردة تجد نفسها في مكانيين متضادين الاول داخل الوطن والثاني خارجه وضمن زمانيين مختلفين فيهما الذات مرة تبحث عن الخلاص ومرة اخرى تبحث عن الجمال وهو ذات الوضع الذي عاشته الكاتبة.

2) استذكار راوية لوقائع تاريخية وذكريات عن الحرب والحصار والتهجير والترهيب كانت الكاتبة قد عاشتها" الثمانينات نمت عميقا في احاسيسنا في الحرب مع ايران من اجل اللاجدوى ومناجل صياغة اسم للطغاة تلك الخيبة التي ضيعت ابناءنا دون جدوى ودون جدى سجلنا فيها نصرا للهزيمة وفصلنا ثيابا سودا لوالدات الحزن المنقاد الى الشظايا والحرق فوق دبابات القتالثم تصل الى حرب الخليج الثانية حيث الوطن لم يعد وطنا واساليب التعذيب التي مارسها الطغاة مع السجينات صارت اكثر قسوة وتقززا وترويعا ورعبا " قادونا ذات يوم الى ساحة مسورة بسور عال ومحاطة بالشراك حيث جروا فيها احدى النساء وربطوا كل رجل بسيارة وانطلقت السيارتان متباعدتين فتناثرت الاشلاء والدماء"

3) ان كلا من وفاء وراوية يتملكهما هاجس الابداع والرسم ورومانسية وفاء لا تنسيها ألمها فالرصيف يذكرها والمطر يخاتلها والربيع تراه يفترسها وهي متوجسة وخائفة من كل جمال حولها كانعكاس نفسي لا واع عن ماض دموي" لست ادري حين بكيت بعد انتهائي من قصيدتي ان كنت في حالة بتر المرض من ذاكرتي ام أعالج المكان بالمكان ام كنت في حالة اكتشاف للامانيبما يجعل راوية تصب لعناتها على الزمان والمكان اللذين كانت المرأة ضحيتهما" كان المكان يرضع دماءنا ..ولم نكن نعرف بأية لحظة ستمتد لنا يد جلاد ليلا فجرا ظهرا ..لم اكن اعرف ان لليل لسانا ..صادقته واخذته الفارس والفرس وعلقت عليه ذكرياتي"

وهي اذ تولي اهتماما كبيرا لمشاهد التعذيب المروعة والدموية التي كانت تمارس ضد النساء في المعتقلات فإنها بالمقابل غضت الطرف عن التطرق الى صور التعذيب الذي مورس ضد الرجال.

وسيجد القارئ ان مشاهد التعذيب النسائية مقتطعة من مراحل عمرية مختلفة للمرأة فمن مشاهد تعذيب المرأة كطفلة" في نفس الليلة توفيت طفلة صغيرة بحضن امها سمعتها تستغيث بالحارس كي يأخذ الطفلة ليدفنها بعد ان توسلت وبكت اخذ الطفلة الميتة ورماها في سطل الزبل وبقيت الطفلة يومين حتى عبت الرائحة الى ان حان وقت قذف القاذورات الى خارج السجن"

الى مشاهد تعذيب المرأة كشابة ينتمي زوجها لحزب الدعوة الاسلامي" سحبوا فتاة في الثامنة عشر ربيعا واخذوا يغطسونها ابتداء من قدميها بالتدرج حتى راسها ثم ارجعونا الى مكاننا في الزنزانة" ..

وقد تذكر تفاصيل التعذيب الجماعي للنساء عموما" وكلامنا عن العري اعادني الى عرينا الجماعي امام المغتصبين دوائر زرقاء وطعنات تبصقها عيون شبقة وترسم نقصها على اجسادنا ...حين مرت الظهيرة كنا منفصلين عن بشريتنا .وتورمت العيون ونزفت الانوف والمؤخرات وكانت مقاومتنا حيث تجمع السائل الكريه على اجسادنا كطفيليات حاولت اقناع نفسي بقدرة فوق قدرات الانوثة "

ومن مظاهر الهيمنة النسائية على المستوى القرائي تبني الكاتبة لمواقف فكرية ازاء قضايا راهنة وخطيرة منزاحة بالكتابة السردية الى منطقة كتابة النص النقدي الايديولوجي حين تتوفر" هناك بديهيات وقواعد تجعل النص مطابقا للواقع اما ان تفترض ضمنا بالنص بوصفها شيئا طبيعيا ضمن الثقافة او يتم عرضها او طرحها بجلاء حيث يقوم النص نفسه بأداء عمليات تطبيع وأقلمة مصرا على ان القوانين والتفسيرات التي يعرضها النص هي قوانين العالم"

وهذا النوع من الكتابة قد يسبب نسفا لبعض قواعد الكتابة التقليدية لان الكتابة النسائية ما عادت مؤمنة بالأشكال الكلاسيكية بل هي قضية ايديولوجية تحتاج قارئا يمر بسلسلة من الصدمات لا تتوقف فاعليته" عند حدود التلقي السلبي بل ترتفع الى مستوى انتاج معرفة بالنص والتمييز بين المعقول والمدلول للوصول الى صياغة موقف فكري منهجي من النصلكي يكون متمكنا واعيا بخصوصية قراءة النصوص الادبية بوصفها نصوصا مفتوحة.

ومن تلك القضايا الايديولوجية قضية الارهاب وعلاقته بالتطرف الديني" استغربتا رؤية رجل يرتدي دشداشة قصيرة دون الركبة بشبر ولحيته الطويلة وشعره الاسود الطويل واثار حرق وسط جبهته .." لتجد ان من هم على شاكلة هذا الرجل كاذبون يسفكون الدماء باسم الدين .

او تدحض ما درجت عليه الادبيات حول اشكالية علاقة المرأة والاخر ومنها ان" الرجل في المجتمعات التي يسيطر عليها الذكر المبدأ المؤسس والمرأة الضد المبعد.. المرأة هي الضد من الرجل ..المرأة ليست فقط الاخر او كشيء ما وراء ادراكه ولكنها آخر متعلق به جوهريا كصورة لما هو ليس عليه.. ولذا يحتاج الرجل هذا الاخر حتى وان كان يزدريه وهو مكره على اعطاء هوية ايجابية لشيء يعتبره لا شيء"

وتسخّر مسروداتها لنقض تلك النظرة فراوية رفضت الاخر حين شعرت انها رماد ووجدت ان بعضها لا يمثل كلها فانبرت تمقت ادما ودعت من مكانها الاثير البصرة ان تخلق لها ادما جديدا لا يعرف مصادرة الاخر وكرهه وترويعه" امتزج صوتي المخنوق بكلمة لبيك يا بصرتي اخلقي لي سماء فيها ادم جديد ادم لا يقطر بشهواته على نسائه العزلاوات ادم لا يصادر الوطن ويسحق ابناءه ادم لا يبني المشانق ولا يسيل لعابه على احتلال الحكم"

وتتبنى السمراء هذا المنطق ايضا عندما تتعرف على صابر فالرجل هو مصدر الغواية وان المراة ليست ضلعا اعوج بل هي نظرة الصقها الرجل بالمرأة لأنه يخافها ويريد ان يداري ضعفه امام الغواية

وتنصهر هذه النظرة في اطار صراع الشرق والغرب وما بينهما من فارق حضاري فالشقراء كرمز للمرأة الغربية ترى ان" المرأة تمثال وجارية توضع على طاولة من ورد واذا لم تكن كذلك نبذها الرجل لأنه يستعرض رجولته امام التماثيلوان الحب بينهما يقترن بالجسد والعشاق مأزومون بسراويلهم وان قلب الرجل في منطقة سروال ولهذا مقتت وليدا وقررت العصيان" فطوال ايام وليال كان يطارد جسدي يقطع أوصالي ويوصلها ثانية يمحو ويضيف كلهم ساديون يتلذذون بالتقطيع ابتداء من الجسد والقلب وانتهاء بالكرامة"

وان ليس هناك رجال حقيقيون بل هم مزيفون والمرأة هي التفاحة التي بها اغوت ادم وأوقعته في الخطيئة" هو المغلوب على امره مسكين استجاب لغوايتها ورسا على شاطئ حياة ادمية "

اما السمراء فانها كرمز للمرأة الشرقية احبت وليدا وفضلت الخضوع له على صابر الذي اجبرها على اداء دور المومس حيث موائد المقامرين والاثرياء فما كان لها الا ان تقيس تصرفاتها بميزان الشرف والشرعية" تبني لها عشا من كبرياء لم تجد نفسها معهم كانوا مثل حشرات وهي خارج المكانووليد نصب عينيها يلازمها التمثل بأقواله وما كان يردده من اشعار وحكم.

ولهذا السبب وجدت (راوية) ان عيناء مماثلة لها لانهما شرقيتان وفلسفتهما للحياة متقاربة ايضا والحكمة مقصدهما والرؤية الدينية الاسلامية مرجعيتهما" الله جعل الكون كله قائما على ثنائيات الاشياء وباكتمالها دون نقص من احد يستقيم الكون هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها يذكرنا بوحدة الانسانية وتكاملها ..حمدت عيناء ربها ..فقد وهبها قوة لتصون نفسها من سوء الحياة رغم مغرياتها حياة محدودة ابتدأت بشكل الزنا وراته امامها تأرجحت بفرحتها وشعرت بأهمية الوقار والعفة واهمية الحب الحقيقي"

وهذا التضاد الرؤيوي في ما يطرح من قضايا انما يتطلب قارئا يكمل القارئ الضمني الذي يتغلغل في بنية النص السردي ويتفاعل معه بوساطة استراتيجيات نصية تمكنه من ملء الفراغات وتحريك افق توقعاته ليكشف مزيدا من الدلالات والمعاني.. كاستدعاء اساطير تقرن الاصل بالأنثى" عشتار لم تلطم على تموز جزافا كانت تعي ان اللطم الدائم لعنة ابدية لذا نحن في حاجة الى اسطورة جديدة تعيد دماء عشتار الى مآقيها "

وتنتقل هذه الطروحات بالفعل السردي الى دائرة التلقي حين تكون راوية هي الحلقة الواصلة بين المؤلفة وشخصيات روايتها ويخيب افق توقع القارئ حين تتحول عيناء من مسرودة الى مسرود لها، ويكون في افتراق الخطى بينها وبين عيناء ما يوصلها الى راوية السيدة التي وجدتها السمراء توافقها اراءها وتعرف انها صديقة وليد ليحصل هنا بعد فانتازي اخر سببه ان الكاتبة تكاشف مسروداتها الذين هم كأبنائها فراوية ستعلم السمراء بان اسمها عيناء واسم رفيقتها ذكرى فتعتقدان انها ساحرة لأنها تعلم بواطنهما" اني لست بساحرة انا فقط ارافق ابنائي واحاورهم ..انا كاتبة والكتابة قدري وانا من فعل الكاتبة الحقيقية وكيفما يجيء شيطان الكتابة اليها ترسم اقدارنا على الورق هكذا رغبت وكما صنعك وليد صنعتني هي لا بل صنعتنا كلنا واسمك في روايتها عيناء والعيناء هي الواسعة العين في سواد "

وكان في التحول الفانتازي الانثوي من رسم لامرأتين بالوان الى امرأتين حقيقيتين مفارقة غير متوقعة اعلت من شأن المؤنث وخيبت بالمقابل افق انتظار القارئ صادمة اياه بعالم الواقع وان ليس صحيحا ان" الادب الذي يعكس المطامح والمتطلبات المزيفة لا يمكن الا ان يكون مصطنعا" .

وسيكون في هذا التحول اكتشافا جميلا مكَّن المرأة من التخلي عن لعب دور الضحية ومنحها المساواة الجنوسية لكنها وقتذاك كانت قد اصطدمت بما حواه الواقع من زيف ومخاتلة كانعكاس لاصطدام البشرية بالشر.

وهذا ما منح الرواية بعدا جماليا جديدا تمثل في مفارقة الواقعية الاجتماعية والدخول في عالم الواقعية السحرية خارقة افق التوقع القرائي ومدخلة الرواية في منطقة الايهام بالخيال لا الواقع مراهنة على تفعيل دور المسرود له بوصفه" الشخص الذي يوجه له السرد داخل النص القصصي ذاته "

وهو غير القارئ الضمني كونه يقف على مقربة من السارد والنتيجة المتحصلة من تحول الصورتين الى امرأتين انهما اكتشفتا ان ليست الاسماء دالة دائما على المسميات وان المظاهر قد تكون خادعة فالشقراء توصلت الى ان دور المرأة في الحياة هو الغواية لا غير" رفيقتي السمراء ارجو ان تعرفي ان الحياة هي المبغى الحقيقي والقلب ليس له وجود هذه الايام عالم رخو يستعيض عن القلب بالحجر وبالنقود "بينما ظلت السمراء تعيش حلما ورديا فنتازيا" لم تكونا على يقين حين نطقتا بكلمة الخروج من اللوحة كان يجذبهما الغريب والقضايا التي تسمعان عنها من وليد . وجدتا نفسيهما امام حلم جديد بمخلوقاته الغريبة لانهما وضعتا امام المحك "

وتهيمن الرؤية النسائية على مستوى القراءة عندما تلتقي الساردة راوية بعيناء لتخبرها انها التقت بالروائية الحقيقية وانها تركت لها ان تحاورها بصفتها كاتبة وانها قالت لها:" سأدخل قلبك وافتح ادراجه واختار لي اسم دلال لكني رفضته وفضلت اسم راوية ..واذكر انها قالت لي مرة: ضعي يدك في قلمك وتعلمي كيف تكون الكلمات "

وانها ستتوقف عن السرد لان الكاتبة ارادت انهاء روايتها بانتهاء المدة التي منحها وليد للمرأتين بالعودة الى لوحته اذ لم يبق سوى اربعة ايام.. وبذلك تختتم الكاتبة روايتها ليتبين ان ما تنبئت به راوية قد حصل متوحدة في الكاتبة التي كانت قد كشفت لها سرها المشحون بالذكريات على ورق وحبر" لا شيء يا عيناء انتهى دوري سأضع يدي على يدي واستمع للرواية الاصلية وغدا سترجعك الى وليد انتهت حكايتي والصباح انشق واعتقد انه حان الاوان لنصبح مجرد كلمات على سطور وفاء عبد الرزاق"

وما ذلك الا لان الكاتبة قد منحت الشخصية الساردة اسرارها وتركتها تطلع على خفايا الكتابة فغامرت وتمردت مخاتلة ومكاشفة كاستحقاق ارادته لنفسها فوقعت فيه ليتم اعلان السر بمباشرة للقارئ الذي ستصدمه صرامتها المروعة والمقصودة في جعله مركزيا ازاء ما يسرد وليُشرك قسرا في العمل المقروء وسيتولى مهمة تأويل كل ما يراه صادما وغير موضوعي، متحملا مشاهد الترويع والدموية بكل ما فيها من تقزز وفجاجة وسوداوية...

خاتمة

تداوم السرديات النسائية رواية وقصة قصيرة واقصوصة على تبني وعي جديد للمؤنث معيدة تشكيل هويته مدافعة عن كينونته بكل ما اوتيت من قوة فكرية وابداعية متحدية قارئها فارضة عليه مغادرة دوره السلبي في التلقي الى دور اكثر فاعلية يقوم على قبول التحدي عبر الدخول في اللعبة السردية بوعي وقصدية ممارسا التأويل بعمق ودراية.. حتى وان تطلب الامر ان يتحول الى متلق بوعي انثوي..

وعلى الرغم من تشظي هيمنة الذات النسائية بين الكتابة والروي والتلقي الا انها حافظت على مركزية المؤنث في العملية السردية مشظية الاخر/ المذكر على المستويين السردي والقرائي..

ليغدو هذا النوع من الكتابة السردية شكلا من اشكال الرواية الواقعية الجديدة ونمطا من انماط الطرح الجنساني الذي يساوي ولا يغلب ويعادل ولا يميز وهدفه تدعيم الوعي الانثوي بهويته وجعله قادرا على مجاراة الاخر ومساواته سواء أكان ذلك بالتفكيك والتشظي والنقض او تم بالهيمنة والتسيد والاقصاء او تحقق بالانتماء والاحتواء والتبني..

فهرس المصادر

  1.  الادب المقارن، الدكتور محمد غنيمي هلال ، دار العودة ودار الثقافة، بيروت، طبعة خامسة، 1981
  2.  الانا والاخر والجماعة في فلسفة سارتر ومسرحه ، سعاد حرب، دار المنتخب العربي للدراسات والنشر والتوزيع ، بيروت، طبعة اولى، 1994.
  3.  البناء الفني في الرواية العربية في العراق، الجزء الاول السرد، د. شجاع مسلم العاني ،دار ، بغداد، 1994.
  4.  تحولات النص بحوث ومقالات في النقد الادبي، د. ابراهيم خليل، وزارة الثقافة، عمان، الاردن، طبعة اولى، 1999.
  5.  سرديات النقد في تحليل اليات الخطاب النقدي المعاصر، حسين خمري، منشورات الاختلاف ، الجزائر، طبعة اولى، 2011.
  6.  السماء تعود إلى أهلها ، وفاء عبد الرزاق، دار كلمة للنشر، مصر، طبعة أولى، 2010 .
  7.  الصوت الآخر الجوهر الحواري للخطاب، فاضل ثامر، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد ، ط1 ، 1992
  8. عتبات (جيرار جينيت من النص إلى المناص ) ،عبد الحق بلعابد ، ،تقديم :د. سعيد يقطين ، الدار العربية للعلوم ناشرون ، منشورات الاختلاف ، الجزائر ،ط1 ، 2008.
  9.  في سبيل الواقعية تأليف: أ. لا فريتسكي، ترجمة د. جميل نصيف، مراجعة د. حياة شرارة، دار الحريمة للطباعة بغداد، 1974.
  10.  مجلة فصول، مجلة النقد الادبي علمية محكمة، ، السيرة الذاتية النسوية: البوح والترميز القهري، حاتم الصكر، العدد 63، شتاء وربيع 2004 .
  11.  مقدمة في النظرية الادبية، تيري ايغلتن، ترجمة ابراهيم جاسم العلي ، مراجعة د. عاصم اسماعيل الياس، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1992
  12.  موسوعة الفكر الادبي ، د. نبيل راغب ، دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 2002
  13.  النظرية الأدبية المعاصرة، رامان سلدن ، ترجمة د. جابر عصفور، دار قباء للطباعة والنشر ، القاهرة، 1998/ 58 نسخة بصيغة pdf.
  14.  نظرية القارئ دراسة في دور مترجم النصوص الادبية، د. مها طاهر، منشورات ابداع ، النجف الاشرف، د.ت .
  15.  النظرية والنقد الثقافي الكتابة العربية في عالم متغير واقعها سياقاتها وبناها الشعورية ، د.محسن جاسم الموسوي ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت طبعة أولى ،2005.
  16.  الهوية الثقافية والنقد الادبي، جابر عصفور، سلسلة العلوم الاجتماعية، دار الشروق، القاهرة، 2010
  17. واقعية بلا ضفاف جون بيرس ،كافكا بيكاسو، تاليف روجيه غارودي، ترجمة حليم طوسون، مراجعة فؤاد حداد، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، القاهرة .
  18.  الواقعية اليوم وابدا، بوريس بورسوف ، دار الحرية للطباعة، بغداد، 1974