هذه الأنقاض دنياي
10-07-2023
319
هذه الأنقاض دنياي
بقلم: عماد الدين
مضت على بُعدها ثلاث سنوات ولكنها لا تزال تطرقه في الليل وتترك في سمعه حسيسا يذهب بنومه ويزداد به قلقًا واضطرابًا في نفسه ويتفصد عرقا سواء في الشتاء أم الصيف.
يقول وتسيل العبرات من مؤقيه
:-لا أدري ما أقول!؟ فإن الأحاسيس مدفونة والكلمات مكفنة،أقول أنني أشتاق إليك كثيرا وأحن إلى حضنك للراحة،وإلى يدك أن تمسح على رأسي وصوتك أن يشنف سمعي وبسمتك أن تثلج قلبي،وإلى وجودك يتلاشى بوجودي وحرارة لمسك يذهب بلغوبي ويلتئم به جرحي.
فسكت بضع ثواني واستأنف يقول كطفل يتيم بكاء شكاء
:-أتدري يا "جمانة"لقد بغت علي أيدي الوحوش بعدك.
يقول ويشير بيديه إلى ندبته
:-ها هنا وهنا...ولا يد لتأسيها،أ تدري كلما يسطعني عبير كلما أقلق ويعتلني الشوق إليك كأنه يفوح من جسمك.
استمر كلامها مع عبراته ولكن لج شوقه هذه المرة فلم يعد يحتمل وبرك باكيا
:-أنظري ها يناديك قرة عينك،كيف أعيش بدونك وكيف تنامين بدوني!؟
ظل يبوح حمزة بكلامه المكبوت لدى قبر زوجته بعد ثلاث سنوات من بقائه في السجن وألف صلاة على هذه السطور التي تتلاشى بها دموعه وتحرق دمائه وتكوي الضلوع وذاك الدخان المتكاثف ما كان ينفثه فراراً عن الهموم الخانقة تتطاير به العواطف اللاذعة ولحظات العشق وأمنية اللقاء وشدة الاشتياق إلى رؤية وجهها الناضر وجبينها المتلألئ وتتطاير به رغبة الفناء في عينيها العسليتين ويرى حمزة هذا الأرق صديقا يصاحبه مذ فارقته زوجته ويشهد على زفراته وشهيقه كلما يتنهد وهذه الليالي ألطف التي تشفق على قلبه البالي وتسترحم روحه المرهقة.لم يتغير بعد مثقال ذرة فإنه لا يزال يقرأ دردشتهما ويتصفح الرسائل في الهاتف تكراراً ولا يزال يغيب في صورتها ولا يزال يتقطع نومه لكثرة حلمه بها ولا يزال يبرك شاهقا عندما الشوق يحدوه إلى زوجته الحبيبة العزيزة "جمانة" ولا يزال يتردد في أذنه ذاك ندائها الخائف فيذهب بوعيه وانتباهه.....
:-يا حمزة
:نعم؟
:-أشعر بالرعب
:-هل تخافين وأنا معك؟
:-لست بخائفة على نفسي ولكن على هذه الدنيا الصغيرة التي بنيناها معا
قالت جمانة وتسيل العبرات من عينيها
:-أ تهدم بيتنا أيدي الطغاة يا حمزة؟
قال حمزة يسليها والدمع يتلألأ في حداقه
:-هل أحد يتجرؤ على هذا وأنا على قيد الحياة؟
:-فلمَ تعلن تلك الوحوش بتهديم بعض البيوت في منطقتنا؟
قال حمزة وهو يتكلف البسمة ويعزي زوجته الحامل
:-لسنا من بينهم
:-ها يؤذن لصلاة العشاء
:-اليوم صلي في البيت يا حمزة
:-لا تخافي فإني أستودعك بالله!
بينما ينفرد حمزة بأحاسيسه الكامنة وألفاظه المحبوسة المتقادمة ويشرق بالعبرات ويمتزج بدخان السيجارة متوغلا في ذكريات جمانة عند قبرها إذ قطعه صوت من خلفه
:-حمزة؟
فالتفت حمزة إذ عانقه صديقه العزيز "رفيق" قائلا
:-يا أخي أين غبت طول مدة؟
فتجاهل حمزة هذا السؤال وقال
:-كيف أنت؟
فقال له رفيق بصوت خافت
:-على ما يرام
ذهب به رفيق إلى بيته وتعشى حمزة مع عائلة رفيق فأراد الانصراف ولكن منعه رفيق قائلا
:-إلى أين تذهب؟
قال حمزة دامعا
:-إلى بيتي
:-أراك بعد ثلاث سنوات وقد بحثت عنك كثيراً هنا وهناك ولا جدوى
فظل يقول
:-ستبقى هنا وتعيش معي في بيتنا
قال حمزة ترتعش شفتاه وهو يشهق
:-أشتاق إلى بيتي يا أخي فإني لم أراه منذ مدة
فأهدأه رفيق وقال بعد بضع دقائق
:-لقد تحررت من السجن قريبا بعد تلك الواقعة ثم لم تعد إلى المحلة فأين كنت؟
بقي حمزة واجما فقال رفيق
:-حدثني بما وراءك يا أخي!
قال حمزة بصوت منخفض
:-في السجن!
قال في دهشة
:-في السجن!؟
فسكت هنيئة وقال
:-ولكنهم قالوا أنهم أطلقوا سراحك بعد شهرين
قال حمزة وهو يتنهد
:-كذبوا
:-الله الله إذن كنت في السجن خلال ثلاث سنوات؟
:-أجل
:-ظلموا؟
قال مبتسما ولم تفارق العبرات عينيه الحمراوين
:-هذا لا شيء ما دام فراقها يظلمني
:-أعرف أن نسيان ما حدث لك صعب جدا وربما مستحيل ولكن رغم ذلك أنصحك أن تتقدم
فقال في حسرة
:-أتقدم يا رفيق!؟ولكن كيف؟
ظل يقول ويتفجر دمعا
:-هي لا تزال تخفق في قلبي ونكهتها تتضوع في هذا الهواء الذي أستنشقه وأحس بحرارة لمستها ولا تزال تتردد ضحكتها في سمعي ونداءها باسمي وذلك الجنين وولدنا الذي كانت تحمله وكنا نتربص به بكل اشتياق،كيف أنسى يا رفيق؟أتقيد بعقال الذكريات السالفة.
فسكت هنيئة وظل يقول دامعا محتدا
:-لا أزال متلطخا بدمائها ولا تزال تنفذ سمعي صرختها وصرخات غيرها من أهل المحلة وذاك شعار الطغاة والوحوش الذي قتل ألف نفس في البلاد فصاعدا.
بينما جميع أفراد البيت نائمون إذ خرج حمزة من بيت رفيق واتجه إلى بيته فكلما يدلف إليه كلما تخنقه الأنفاس وتمتلئ العينان بالدموع ويزداد خفقان قلبه من شدة الوحشة فلما ظهرت له أنقاض بيته عجزت خطواته ولم تعد تتقدم فاعترته الأحاسيس اللاذعة والخوالج الجياشة التي بدأت تلفعه وأعضاءه فكاد يجن وركض نحو الأنقاض متضاغيًا لا حد له فلم يبقى شيء من أثاثات البيت والآثار إلا تلك الأنقاض والمخطوط باللغة الأردية رسمه على بوابة بيته فتلوح حروفه المنقوشة"جمانہ محل" (إوان جمانة) فيلمسه بكل إحساس ويقبله ويندم على أن غادرها تلك الليلة إلى المسجد قائلا
:-لا تخافي فإني أستودعك بالله
فعانقها حمزة وغادرها إلى المسجد وقد أقفل الباب من خارجه.فلما عاد حمزة بعد ساعة اندهش مما رأى وما كاد يصدق ما كان يعاينه رأي العين فقد هز كيانه إذ رأى البيوت متهدمة حيث كانت تخترق سمعه نياحة أهل المحلة من العجز والأطفال والضعفاء فأسرع إلى بيته ولم يعد ذاك بيتاً إذ صار نقضا وتظهر من ضمنه يد ذات سوار ذهبي متلطخة بالدماء فانتصب كتمثال ولم تعد تتحرك وتتقدم خطواته إذ منعه صديقه العزيز رفيق وحاول أن يدفعه ولكنه صرخ قائلاً وأبرز مقلتيه الدامعتين
:-أترك دعني أرى
فمنعه رفيق ولكن حمزة دفعه وخاف أن يقترب فتفجر بكاءً وقال
:-ما هذا يار (صديق) !؟
فبدأ رفيق يبكي ويقول
:-لا يتركنا هؤلاء الطغاة
يقول ولا يكاد يفصح الكلام من شدة البكاء
:-ولكن ماذا فعلنا؟هل يقتلني لأني مسلم،أم هذا هو ذنبي؟
فظل يقول وهو يشهق
:-وما ارتكب هذا الجنين الذي قتلوه قبل أن يشاهد نور هذه الدنيا؟
بينما يندب حمزة إذ رأى اليد تتحرك فاهتز هلعا وأسرع نحو الأنقاض وبدأ يصرفها هو ورفيق إذ رأى زوجته "جمانة "تتلطخ بالدماء فوضع رأسها على حضنه ولا يستطيع حمزة أن ينقطع عن الدموع وكيف يمكن؟ فقد تقلبت له الدنيا كلها في لحظة إذ يرى أن تفارقه التي هي أحب إليه من نفسه وتتضاغى من سكرة الموت فبدا وكأنه هو من يذوق هذه السكرة ويتململ منها فقال لها حمزة باكيا
:-لن يصيبك شيء إن شاء الله
فتتشكى جمانة وتهمس لا يكاد الكلام يخرج من لسانها
:-حمزة...حمزة؟
:-نعم!
تهمس وتبكي
:-لم تدم هذه دنيانا الصغيرة فقد دمرتها أيدي هؤلاء الوحوش والطغاة،حمزة اعتن بنفسك سأبقى معك أنا وولدنا هذا دائماً،وأنظر إلى الفرقدين
فقال حمزة ويبتل بالعبرات
:-نعم أنظر
:-نعم سترانا بينهما
فلم تتحرك جمانة وقد غابت في نوم عميق إلى الأبد.
استيقظ رفيق في الفجر ولم يرى حمزة فاتجه نحو بيته فهو غائب إذ رأى بعض الناس يركضون بدهشة كأنهم فوجئوا بأمر ما فلاحقهم إذ رأى ثلة من الناس يتهافتون على شيء فلما دخل بينهم فوجئ هو نفسه إذ رأى جثة قد فسدت رائحتها فقال قائل
:-هذا ولد فلان مسكين آه مسكين فقد قتل أبوه لأنه لم يفه بشعار "رام" وهو اليوم مقتول،لا أدري من يكون بعده.
فانصرف رفيق يبحث عن صديقه "حمزة".