المنظمة العالمية للإبداع من أجل السَّلام/ لندن

القراءة الخامسة : تيسير حيدر - مجاز

21-05-2023


206 

القراءة الخامسة : تيسير حيدر - مجاز 

الأديب الناقد عبد الله السمطي

 

وأنتَ تَفْرطُ حَبَّاتِ الرُّمَّانِ ،أنامِلُكَ تَتَلَعثمُ من شَغَف .يَبسمُ لكَ بَرِيقُ سائلِها الزَّهْرِيِّ بفَرَح .

تَنْتشرُ وتَتَفرَّقُ بِرَقْصٍ ماتِع فوق طاوِلةِ طَعامِك كَطيورِ الحَجلِ بِمناقِيرِها المُحَلاَّةِ بِفَنِّ الجَذْب .أطِلْ مُدَّةَ اسْتمتاعِكَ ،أدْخلِ المَجازَ المُعانقَ لِلرُّوح وتَذَكَّر النَّهْدَ الذي تُحِبّ،تَدَرَّبْ على لَذَّةِ الإمْتاعِ واخْفضْ هَمْسَ بَنانِك لَعَلَّ قُربَكَ في البُستانِأشْجاراً تَسْترقُ السَّمْعَ ،اخْفضْ هَمْسَ بَنانِك !! 

في شعرية التأمل في الصغير، في اليومي الملموس، في الأشياء العادية التي ربما لا نلتفت إليها بسبب مألوفيتها، واعتيادنا على حضورها، ما يغري ببدء شعري مائز. إننا في هذه الشعرية نجاذب العاديّ أطراف أسئلته، نبحث معه عن مكامنه الشعرية، ولعل من الإسهامات الرائعة التي مكنتها قصيدة النثر في الشعرية العربية، تحويل الفضاء اللغوي كله إلى حالة شعرية، إنها تستجيب بشكل ضمني لتمثلات الشاعر الفطري العربي القديم الذي كان شعره حياته لا يفرق بين لفظة بديعة أو غير بديعة، موقّعة أو غير موقعة، متجانسة صوتيا أم لا. لكنه يفكر كيف تكون حياة الشيء نسقا من الصور، وعناقيد من الدهشة. وهو ما يفعله الشاعر تيسير حيدر في تجربته الخاصة شعريا، هو يعيش أجواء حياته عبر فتق الطبيعة وتفجير دلالاتها اللفظية بسيطة صغيرة أم كبيرة متعالية. في هذا النص يذهب إلى حبات الرمان، فيفرط الرمان، باستدعاء شعبي لغنائيات: فرط الرمان، ويتأمل ذلك في ابتكار علاقة بين شغف الأنامل وحبات الرمان التي تقوده إلى تخيل أشياء أخرى. هو وضع مشهده الصغير وفجّر تخيلاته، فالأنامل تتلعثم، وحبات الرمان تبتسم ثم تأخذ شكلها الراقص فوق طاولة الطعام، إلى أن تحين انتقالة تصويرية أخرى حين ينقلها إلى حالة تشبيهية متحركة وحية: " كطيور الحجل بمناقيرها المحلاة بفن الجذب" ثم يقوم بالالتفات إلى الأنا الشعرية بجملة من الأفعال التي تجعل الأنا مستجيبة لأثر الحضور المشهدي البسيط الذي تشكله حبات الرمان، أطل/ تذكر/ تدرب/ اخفض، في جملة من الصور الشفيفة الحيوية المتحركة التي حولت حبات الرمان إلى حالة شعرية جلية. 

إن الحيوية هنا تمثلت في دخول الأنا الشاعرة إلى المشهد، لم يكتفِ الشاعر بتحريك الحبات بالأنامل، إنما حدث التفات للأنا الشاعرة جعلها تتذكر أشياء أخرى، جعلها تُيقّنُ من حضورها بتذكر الحسي النافر: النهد، باستدعاء لذة الإمتاع، حتى يصل لصورة رائعة: اخفض همس بنانك لعل قربك في البستان أشجارا تسترق السمع. هو لا يريد أن تصغي الأشجار لهمس البنان مع حبات الرمان. هو همس حيوي وهمس تذكر وتخيل وتأمل. 

إن النص يجري مجرى شعري وسردي مكثف معا، وفي يقيني أن نوعية هذه النصوص الشعر-نثرية ربما تصطدم حتى بطريقة كتابتها بما يسميه إدوار الخارط: الكتابة عبر النوعية، أو الكتابة الإجناسية، وهي كتابة مجربة منذ ثمانينيات القرن العشرين لدى شعراء وكتاب قصة وكتاب قصة قصيرة جدا، وهي منتشرة على اليقين لدى شعراء مدرسة كركوك العراقية وشعراء السبعينيات في مصر وبالتأكيد لدى أدونيس ومدرسة مجلة شعر، لكن أتصور أن طريقة توزيع الكلمات والأسطر مازالت تشكل بعدا بصريا يسمي النص. لأن استدعاء شكل هذه الكتابة ربما يكون مغريا لدى القارئ العام بسؤال عدم التفرقة بين الشاعر والناثر، أو بين نص ونص وطريقة كتابة وأخرى. 

على أن الشكل ربما لا يكون حاجزا حيال انفتاح الشعر وحيويته وطاقته في الصعود إلى مطلق مغاير. 

إن تيسير حيدر يكتب بدأب في تجربة ربما بعيدة عن الضوء، لكنها على اليقين قريبة من تموجات القصيدة وحيويتها.