المنظمة العالمية للإبداع من أجل السَّلام/ لندن

مشترك العربية واللهجات

24-04-2023


212 

مشترك اللُّغة واللهجات

بقلم: محمد عبدالكريم الدليمي

 من العلماء الأوائل الذين تكلموا عن اللُّغة ولهجاتها هو الإمام ابن جني وعقد لذلك فصلاً خاصاً حول ما سماه (اختلاف اللُّغات وكلها حجة) إنَّ القصد باللغات اللهجات العربية المختلفة، وينص على جواز الاحتجاج بها جميعاً، وإن كانت بعض خصائص لهجةً أكثر شيوعاً من خصائص الأخرى، فيقول: "إلاّ أن إنساناً لو استعملها لم يكن مخطئاً لكلام العرب، لكنه يكون مخطئاً لأجود اللغتين. فأمّا إن احتاج إلى ذلك في شعرٍ أو سجعٍ فإنه مقبولٌ منه، غيرُ مَنْعِيّ عليه. وكذلك أن يقول: على قياس مَنْ لغتهُ كذا وكذا، ويقول: على مذهب من قال كذا وكذا. وكيف تصرِفت الحال فالناطقُ على قياس لغةٍ من لغات العرب مصيبٌ غيرُ مخطئ، وإن كان غيرُ ما جاء به خيراً منه".
واعتراف الإمام ابن جني بأن اللغات كلها حجة، لا يصعب عليه من كشف اجتماع لغتين فصاعدا في كلام الفصيح، قال الشاعر
فَظَلْتُ لدى البيت العتيق أخيلهو 
 ومِطْوايَ مشتاقان لَهْ أرقانِ

وقال الإمام ابن جني: "فهاتان لغتان: أعني إثبات الواو في (أُخيلهو)، وتسكين الهاء في قوله: (له)؛ لأن أبا الحسن زعم أنها لغة لأزْدِ السَّرَاة، وإذا كان كذلك فهما لغتان. وليس إسكان الهاء في (له) عن حذف لحق بالصنعة الكلمة؛ لكن ذاك لغة". ومثل هذا الفصيح الذي يجتمع فيه لغتان فصاعدا ينصح الإمام ابن جني بتأمل كلامه وتفحصه. فيقول: "فإن كانت اللفظتان في كلامه متساويتين في الاستعمال، كثرتُهما واحدة، فإنّ أخلق الأمر بهِ أن تكون قبيلتهُ تواضعت في ذلك المعنى على ذينك اللفظين؛ لأن العرب قد تفعل ذلك للحاجة إليهِ في أوزان أشعارها، وسعة تصرُّف أقوالها"، وذكر الدكتور صبحي: "وهكذا ينقل ابن جني تنوع الاستعمال من الفرد إلى القبيلة، أو قُلْ من الانحراف الشخصي إلى العرف الجماعي، تهرباً من الاعتراف بشذوذ الفرد، ما دام فصي".
والذي ذكره الدكتور صالح إنَ ذلك واضح في دفاع الإمام ابن جني عن الكلام الفصيح حينما تكون اللفظة أكثر استعمالاً من صاحبتها الأقل استعمالاً، ويقول عن اللفظة أقل استعمالاً: "إنما قلَّت في استعماله لضعفها في نفسه، وشذوذها عن قياسه، وإن كانتا جميعا لغتين له ولقبيلته"، ويستشهد بذلك في حكاية للشيخ أبي العباس عن عُمَارة، بقوله: "قراءته ﭧﭐﭨﭐﱡﭐ ﳃ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ  ﳉ ﳊ ﳋ ﳌ ﳍﳎ ﳏ ﳐ ﳑ ﳒ ﳓ  ﱠ  [يسن: 40] (سابقُ النهارَ) بنصب النهار، وأن الشيخ أبا العباس قال له: ما أردت؟ فقال: أردتُ (سابقٌ النهار) قال أبو العباس فقلت له. فهلَّا قلته؟ فقال لو قلته لكان أوزن؛ أي أقوى". وحاصل كلامه أن اللُّغتين تتساويان، القوية والضعيفة في كلام الفصحاء، فهم: "قد يتكلمون بما غيرهُ عندهم أقوى منه، وذلك لاستخفافهم الأضعفَ؛ إذ لولا ذلك لكان الأقوى أحق وأحرى". ويصف الإمام ابن جني بقلة الفهم والنظر لمن يفسر تداخل اللغات وتركبّها بالشذوذ، أو ينسبه إلى الوضع في أصل اللُّغة، ويحتج برواية يرويها عن الشيخ الأصمعي، في تركب اللغات: "اختلف رجلان في الصَقْر، فقال أحدهما: الصقر (بالصاد)، وقال الآخر: السَقْر (بالسين)؛ فتراضيا بأوّل وارِد عليهما فحكيا له ما هُمَا فيه. فقال: لا أقول كما قلتما؛ إنما هو الزَقْر"، ويظهر الإمام ابن جني حقيقة تداخل اللُّغات من خلال هذه الرواية، ويعلق عليها بقوله: "أفلا ترى إلى كل واحد من الثلاثة، كيف أفاد في هذه الحال إلى لغته لغتين أخريين معهما. وهكذا تتداخل اللُّغات". وإن الإمام ابن فارس له النظرة نفسها التي نظر لها الإمام ابن جني، وذكر صوراً متباينة من اختلاف لغات العرب، ولم يصرح برواياته عن لغات العرب ما كان منها الضعيف، والقوي المتداول. فقال: "وإِنْ كانت لقوم دون قوم فإنَّها لما انتشَرَتْ تعاورها كلٌّ".
قال الشيخ أبو حيّان

: "كلُّ ما كان لغةً لقبيلة قِيسَ عليه". وقال الإمام ابن فارس: "أجمع أهل اللُّغة إِلَّا من شذَّ عنهم أنّ للغة العرب قياساً، وأنّ العرب تَشْتقُّ بعض الكلام من بعض"، وقال الشيخ أبو عثمان المازني: "ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب"، وقال الإمام ابن جني: "الناطقُ على قياس لغةٍ من لغات العرب مصيبٌ غيرُ مخطئ"، وقال الإمام المبرد: "إنَّما يَردُّ الأسماء إلى أصولها"، وقال أيضاً: "وقد يجيء في الباب الحرف والحرفان على أُصولهما وإن كان الاستعمال على غير ذلك ليدلَّ على أصل الباب"، وعلى هذا المنهج المتبع تساوت جميع اللهجات العربية في الاحتجاج بها، وهذا مما لم يحمل القدامى بواعث قوية للعناية باللهجات عناية خاصة، أو على التفريق بين اللهجات القوية والضعيفة، مما أدى إلى التناقض في تخريج القواعد النحوية والصرفية من كل ما روي عن القبائل، "وأقحموا على الفصحى خصائص اللهجات المتباينة بوجوهها المتعددة"، وذكر مثل هذا الأستاذ سعيد الأفغاني، فقال: "لم يصدروا في تنسيق شواهدهم عن خطة محكمة شاملة، فأنت تجد في البحث من بحوثهم قواعد عدة، هذه تستند إلى كلام رجل من قبيلة أسد، وتلك إلى كلام رجل من تميم، والثالثة إلى كلمة لقرشي. وتجد على القاعدة تفريعاً دعا إليه بيت لشاعر جاهلي، واستثناء مبنياً على شاهد واحد اضطر فيه الشاعر إلى أن يركب الوعر حتى يستقيم له وزن البيت".
ومنشأ هذا كله خلطهم بين اللُّغة الأدبية المثالية الموحدة التي هي لغة الخاصة وبين لهجات التخاطب العامة لدى القبائل الكثيرة المشهورة، على حين أنّ شرط اللُّغة هو الاطراد والتوحد في الخصاائص. إن العرب ككل شعوب العالم. كانوا في العصر الجاهلي وفي الإسلام منقسمين إلى فئتين: فئة الخاصة التي كانت تتطلع إلى صقل لغتها وتحسينها وتهذبها، فتسمو في تعابير ألفاظها إلى مستوى أرفع من مستوى التخاطب العادي، وفئة العامة التي كانت تكتفي بحظ قليل من فصاحة القول وبلاغة التعبير، وتمضي تبعاً لتقاليد القبيلة الخاصة وبيئاتها الجغرافية الخاصة إلى الاستقلال في صياغة جملها وتركيب مفرداتها ولحن أصواتها.

ملخص الافادة بايجاز ، إن اللغة العربية الفصيحة البليغة هي لغة الدين والاشعار البليغة التي تمثل الموروث العربي مثل المعلقات العشر أو عز القبيلة، أو الامور العظام التي تخص العرب جميعا. أما ما كان من لسان القبائل فهي لسان العوام كما هو موضح في المنشور .

من كتابي بين القران واللغة